لو عرف ذلك المخبر الضئيل، قيمة ما ستقترفه يده حين ضغط على ذاك الجهاز، وفجّر تلك الشخصية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفاعلة في المجتمع وللمجتمع مثل رفيق الحريري أو مفكراً مثل فرج فودة أو مخرجاً مبدعاً مثل مصطفى العقاد أو رساماً وطنياً مثل ناجي العلي أو مثل ذلك الذي حاول مرة أن يغرز خنجراً في عنق نجيب محفوظ، وغيرهم كثير من ضحايا الحقد والجهل ومرح الشيطان! لو عرف القاتل قيمة وثقل المقتول لكان الأمر اختلف، والحال تبدلت، والزمن توقف، ولا قيمة أن يلاحقوا شخصاً كان يعمل مخبراً ضئيلاً، وجاهلاً، وربما مغلوباً على أمره، وربما كان الفقر ينخر عظامه، وربما ممن غسلوا أدمغتهم بالجنة والحوريات ومعنى الشهادة، وربما ممن يتعاطون الكيف والمخدرات، وربما لا قيمة للأشياء الجميلة عنده، وربما لا يقدّر قيمة أن يكون الآخر رجلاً عن ألف رجل، وربما لم يعرف الوطنية، ولا يدري عن الشرف! مثل أولئك الرجال الذين قتلهم الجهل، قليلون ولا يجود الزمان بمثلهم دوماً، هم فئات يميّزهم الزمن، ويصنعهم الوقت، وربما تعجنهم الأحداث والحياة ليقوموا بدورهم الجميل والمؤثّر في المجتمع والناس والحياة! هناك ألف وألف مخبر ولص ووزير وزعيم ومدرّس وسائق شاحنة وحفار قبور وحارس شركة، لكن هناك في زمنهم ووقتهم ربما كان موسيقّي واحد، ومصلح واحد، وشاعر واحد، ومرب حكيم واحد، ووزير فاعل واحد، وزعيم قائد واحد، ليس كل الناس يملكون موهبة النجاح والاستشراف والإصلاح وبناء الدولة وتنشئة الأجيال وصياغة الأفكار الخلاقة! لو أن قاطع طريق جزّ عنق ابن خلدون وهو صغير، لو أن سكيراً خرج لأينشتاين في ظلمة الليل وأغرز سكّينه في خاصرته وهو شاب، لو أن شاباً يمينياً متطرفاً لوّثته السياسة وفشل في الدراسة وتسلّل ليطعن الزعيم الفرنسي ديغول وهو ما زال ضابطاً صغيراً يتلمّس أول طريقه، لو قطعت يدا المثّال الفرنسي رودان وهو يعمل في حديقته، واغتيل الرّسام بيكاسو وهو يتشمّس على شاطئ البحر، لو أن رصاصة تسلّلت لكل رواد النهضة والفكر وفلاسفة العصر في شبابهم، وقبل أن يطفوا إلى الحياة بأحلامهم، لكانت الحضارة الإنسانية اليوم تعرج بقرن أو قرنين أو يزيد إلى الوراء! مثل هؤلاء الرجال الذين يثمّن الواحد منهم بألف رجل، وألف رجل ربما لا يساوون واحداً منهم، هم هبة الحياة للأمم والشعوب والحضارة الإنسانية، يسعدون الناس ويختصرون زمن المعاناة والصبر، يخترعون دواء يشفي البشرية ويخفف ألم الإنسان، هم في طرق الحياة كلها، ولكل منهم دوره، واحد يزين الحياة بريشته، وواحد يكتب تاريخ أمته وواحد يجاري الطبيعة في نغمها، وواحد يخطو بقومه إلى المجد، وواحد يؤسس بلاده للسلم والحب ويمنع الحرب، لكن خلفهم في الظلمات آلاف يتصيدون خطاهم النبيلة! amood8@yahoo.com