غيّب الموتُ منذ أيّامٍ أحدَ أكبرِ وجوه الفكر الإسلاميّ في العهود الأخيرة، وهو المفكّر الجزائريّ محمد أركون. وقد اشتهر الرجل في العالم كلّه بتطبيق المنهج التقويضيّ (التفكيكيّ) الذي حاول من خلاله إعادة قراءة الفكر الإسلاميّ، لا من داخله بالرؤية الإسلاميّة الخالصة، ولكنْ من خارجه بالرؤية الاستشراقيّة. فقد ظلّ الرجلُ كأنّه إنّما يكتب ليُرضيَ المستشرقين، لا ليُرضيَ المسلمين. وليس من اليسير بوقوف هذا الموقف ألا يقع المفكّر في الزّلَل، ومن ذلك ركُوبُه محظوراتٍ في النظر إلى القرآن، فقد وصفه أركون بالأسطوريّة طوراً، والتاريخانيّة طوراً آخرَ. وقد كنّا رددنا عليه في كتابنا “نظام الخطاب القرآنيّ”، إذ كان يعتقد أنّ القرآن خارج عن نطاق التاريخيّة، وجارٍ مَجرى التاريخانيّة. وأمّا عن رَمْيِه القرآن بالأسطوريّة فقد زعم الشيخ حين قيل له في ذلك أنّ الأسطورة التي يقصد إليها هي واردة بالمفهوم الأوروبي. وقد عدنا نحن إلى مفهوم الأسطورة في اللاتينيّة، والفرنسيّة، والإسبانيّة، والإنجليزيّة، والروسيّة لنتفهّمَه فلم نجده يخرج عن أنّ الشيء يرِدُ في إطار ما لا يُعقَل، وما هو غيرُ واقعيّ، ولا تاريخيّ، وإنّما يرد ضمن الرؤية العجائبيّة للأشياء.. فقد دَحَضَ، إذن، ما تعلّل به الشيخُ في ازْوِرَارِه ممّا وقع فيه. وقد كنّا ردَدْنا على الشيخ بأنّ القرآن يَنِدُّ، في الحقيقة، عن زمَنَيِ التّاريخيّة والتّاريخانيّة معاً، وذلك على أساس أنّ هاتين النّزعتين إمّا أن تعالجا ما حدث ومضى حقّا وانتهى تأثيره أو ضعُف، كالثورة الفرنسيّة في التّاريخ الأوروبيّ الحديث، والثورة الجزائريّة في تاريخ العرب المعاصر: فهما تاريخيّتان، أي وقعتا في عهد من الزمن الماضي فعلاً. وإمّا أن تعالجا ما لم يحدُث قَطُّ، أو حدث فأُلْبِس لباساً أسطوريّاً أو خرافيّا أو تهويليّا، وهو شأن التّاريخانيّة. أمّا أن نعْمِدَ إلى نصٍّ يطفح بالحياة، ويتوهّج بالتّأثير الرّوحيّ الكريم، ليلاً ونهاراً، وصباحاً ومساءً، وعبر الصّلوات الخمس، وفي النّوافل، وعبر كلّ الدّعوات والأذكار والأوراد؛ بل عبر كلّ موقف من مواقف الحياة: في قلوب مليارٍ ونصف مسلمٍ منتشرين في القارّات الخمس: فإنّي لأَحْسَبُ أنّ هذا المذهب من التّفكير لا يَسْلَمُ من التّمَحُّلِ، ولا يَخلُصُ من غُلواء العلمانيّة التي قُصاراها، هنا، تجاهُلُ توهُّج نصّ القرآن وإنكار عنفوانه الجيّاش الذي يجعله حيّاً باستمرار، ومن دون أن يفقِد أيّ شيء من تأثيره في نفوس المسلمين. ولعلّنا ألا نكون مفتقرين، في هذا الموطن، إلى إثبات ما هو ثابت؛ ذلك بأنّ القرآن الكريم ذَكرَ، مثلاً، الشُّورى، بحمْدها أو الأمرَ بها، ثلاثَ مرّات، وذَكَر أوليِ الألبابِ ستَّ عشْرةَ مرّةً، وذكَر التّفكيرَ ثمانِي عشْرةَ مرّة، والعقلَ تسعاً وأربعين مرّة، والعلْمَ مئات المرّات من حيث ذكر التّدبّر ثماني مرّات... أفيجوزُ أن يوصَفَ نصّ إلهيّ هذا شأنه بما ليس فيه!؟... إنّ الذي يحاول استدراج الزمن القرآنيّ إلى نحو التّاريخانيّة، وحتّى إلى التاريخيّة بواقعيّتها الدنيويّة، لِيقارنَه بما ليس من جنسه من النصوص... لَهُوَ مُخطئ، في ذلك، خطأً شنيعاًً.