ما يثير السخرية والمفارقة المريرتين، ذلك التركيز الإعلامي المكثّف، على الانتخابات الديمقراطيّة في بلدان سُحلت فيها معالم الحياة البشريّة والإنسانيّة بالكامل، وعاث فيها الغزاة المدججون من كل الأصناف والجنسيات بأقصى ما توصلت إليه تكنولوجيا الفتك العسكري الساحقة وأحالتها إلى أنقاض وحطام. ما يحدث من مسرحيات تراجيكوميديا في مثل هذه الانتخابات المزعومة في بلدان كثيرة على امتداد العالم، أبرزها العراق التي بدأت بعض قواه الحية في الاستيقاظ من غيبوبة التخدير الكارثي. وأفغانستان، التي تشهد هذه الأيام “عيدها الانتخابي” الديمقراطي البهيج أيما بهجة تسبق حلول المستقبل المشرق. بوقاحة لا مثيل لها في تاريخ الحروب والغزوات والاحتلالات، يروج صناع الخراب ومهندسوه الحديثون، الديمقراطيون حقاً في بلدانهم ونقيض ذلك في بلدان الغير، وقد سحقوا الأخضر إن وُجد، واليابس وهو الذي يتسيد الحلبة، وأي ومضة في إمكانيّة تقدم محتمل، يروجون لمثل هذه المهازل الانتخابية في بلدان تمزق فيها الحد الأدنى من النسيج الاجتماعي، قِوام أي اجتماع، وقذف بها الغزو الوحشي إلى المناطق التي ربما لا رجعة منها في القريب والمتوسط، المناطق التي انفجرت منها وفيها كل أنواع العصبيات العمياء والغرائز الدموية من طائفية ومذهبية وعرقية، ضغائن وكراهيات تتراكم عبر أنهار الدماء كالجبال، مفضية إلى العهود الأكثر انحطاطاً وفظاظة في تاريخ الجماعات البشرية... وسط هذا المناخ المدلهم يروج المحتلون والأتباع والأدوات لهذه المهازل التي تحتل عناوين وواجهات الصحافة والقنوات الفضائية من غير منازع، كأنما هذه المهازل المضحكة من فرط مأساويتها، أحداثٌ جسام ستقود إلى التغيير المنشود الذي حلمت به الشعوب المقهورة التي عانت طويلاً وطأة القمع والاستبداد.. بدل أن تعيد أميركا وحلفاؤها الذين يتربعون على سدة السلطة في العالم، النظر في الجرائم والفظاعات التي ارتكبت تحت مبررات ودعاوى مختلفة، النظر في تلك الأفعال التي تشكل لحظة عار نوعية في تاريخ الحضارة تضاف إلى السوابق الاستعمارية الكثيرة التي كانت القانون الدموي الوحيد والمباشر الذي يحكم العلاقات، هي الآن تزعم بأطروحاتها الجديدة أنها تريد التخلص من ذلك الإرث المقيت.. تتماهى انتخابات المحتلين الحضاريين، مع مهازل أنظمة الداخل صاحبة (99.9). ويا لها من مفارقة لا يجود التاريخ بمثلها كثيراً كأنما الحضارة من علم وديمقراطية وفنون واكتشافات عظيمة تسقط دفعة واحدة متماهية مع نقيضها “البربري” والتعبير لأصحاب الحضارة، وتسرق منه كل عدته من الكذب والتبرير المصحوبين بداهة بالعنف الأقصى والتدمير.. على هذه الأرض المنكوبة تتماهى الأضداد في انسجام القتلة من كل الجهات عبر ديمقراطية تنتخب فيها الجثث موتاها ومن في طريقهم إلى الموت الحتمي والدمار.