“إنه الليل. ليل بهيم مروّع في بلاد لا اسم لها، ولا هوية، بلاد أشباح، بلاد عبثية، بلاد سخيفة مسخوطة ملعونة مثل عديد البلدان في هذه القارة. كان القرار قد اتخذ: لا بدّ من قتلهم. شرع الراديو يذيع الأنباء: سيداتي، سادتي مواطنينا الأعزاء، مساء الخير، نبدأ برامج المساء بموجز للأنباء. الحرب الأهلية التي توسّع من دائرة انتشارها بالقرب منّا طحنت عشرة آلاف شخص فيما مئات الآلاف يهيمون على وجوههم بحثا عن مكان آمن”. هكذا تفتتح الروائية السنغالية كين بوجيلKen Bugul روايتها “الجنون والموت”. وتعد بوجيل من أهم الكاتبات الأفريقيات. اسمها الحقيقي هو مارييتو مباي بيليوما Mariètou Mbaye Biléoma لكنها أمضت جميع رواياتها باسمها المستعار. حتى لكأنها اختارت التخفي طريقا إلى الشهرة والمجد. حالما نشرت روايتها الثالثة “ريوان والطريق الرملي” سنة 1999 توجت روائية مبدعة، وذاع صيتها على إثر حصولها على الجائزة الكبرى للأدب في أفريقيا السوداء. توالت الروايات بعد ذلك النجاح ومنها “مايراه النظر في الجهة الأخرى” و”رماد وجمر” و”القطعة الذهبية” و”رجالي أنا”. والطريف في روايتها “الجنون والموت” أن الشخصيتين الرئيسيتين هما الراديو وامرأة تدعى موم. تلقت موم ذات يوم الراديو هدية من زوجها المغترب في إيطاليا طلبا للرزق. فصار الراديو تجسيدا لذلك الزوج الغائب. إنه الحضور الذي يذكّر بالغياب ويمحوه في الآن نفسه، لأنه أصبح أنيسا لها في وحدتها. بل إن الراديو أصبح درعها الواقي من ألسنة السوء في القرية. ما دام الراديو معها، وما دامت الأصوات منبعثة من ذلك الجهاز سيدرك جميع أهل القرية أن مومو ما زالت محافظة على زوجها إذ لا يُعقل أن يرسل الزوج هذه الهدية الثمينة إلى زوجته ثم يفكر في هجرها. تتملّص مومو من جميع مسؤولياتها مأخوذة بالراديو إلى حد الهوس. غير أن الأحداث الجسام المروعة التي تصل من الراديو عبر الأثير تفتح شخصية مومو على دلالات رمزية عديدة. فهي تجسّد تارة موقف التخاذل والتخلّي عن المسؤوليات. وهي تجسد تارة أخرى أفريقيا بمديونيتها وبؤس فقرائها وحروبها العبثية المشتعلة هنا وهناك، وسلطاتها الديكتاتورية التي تسحق تحت أقدام العسكر والجنرالات كل الآمال. لا ينقل الراديو غير أخبار القتل فرديا وجماعيا، وأخبار الاغتصاب والفظاعات أصنافا، في قارة تهلك ككل من فيها وككل ما فيها. هكذا تصبح الرواية عبارة عن نشيد أسود يرفع تمجيدا للموت وإعلاء للعدم. ثمة يأسٌ. ثمة استسلامٌ لفكرة الموت. الموت وحده هو الذي سيخلص أفريقيا من أوجاعها. هذا ما صرحت به الكاتبة في مقابلة صحفية. نقرأ: “يجب أن نموت. وأنْ نموت معناه أن نرفض كل شيء. يجب أن نغلق كل بوابات أفريقيا. نحن في عزّ الكارثة. يجب أن نعانق كارثتنا ونموت. ومن يجرؤ بعد ذلك على محاكمة الموت. يجب على الشعوب أن تثور”.