الرسالة الثالثة إلى شاب إماراتي حادثته لاستيضاح أمر ما ثم التقيته لأعرف أكثر، وحين جلست إليه انهمرت المعرفة كمطر شتائي غامر، كان حديثاً في التعليم، في الصحة، في الأدوية، في شؤون طلاب البعثات، في الأزمة الاقتصادية، في تجربة الإمارات، في الأمراض المستعصية، في البطالة وفي أشياء كثيرة مختلفة. لم أحدثه بعد ذلك اللقاء، لكنني مازلت تحت تأثير حكاياته وتجاربه التي حدثني عنها رغم صغر سنه أو على الأقل هذا ما بدا لي من تقاطيع وجهه الفتي. عزيزي... وأنت تجلس لا أدري أين: في غرفة مكتبك، أو تحث الخطى باتجاه قاعة الدرس لتلقي محاضرتك على طلابك، أما زلت عند قرارك الذي أسررت به إليّ: إنك لا تأمل في هذا الجيل الذي يكافح ليعيش، وإن الأمل والمخرج بحسب رؤيتك وبوصلة قلبك في هؤلاء الشباب الذين يملكون وحدهم مفاتيح البوابات للعبور بنا نحو فضاءات أفضل وأكثر اتساعا؟ أنا اتفق معك تماماً. عزيزي... وقد حدثتني عن انهيار أعصابك بعد مواجهات رفعت فيها صوتك وخبرتك ومعرفتك، أما زلت مصراً على عدم العودة لتلك الوظيفة التي منحت الغربة لأجلها أكثر من عشرين عاماً لتعود قوياً بالمعرفة محصناً بها؟ أظنك قد اتخذت قرارك بلا رجعة أو تراجع، فمن خسر في هذه المعركة يا ترى: عمرك الفتي أم مؤسستك أم نحن جميعاً؟ عزيزي ذلك الشاب... لقد رأيت فيك الوجه الآخر الأكثر قوة وامتلاكاً لأدوات المستقبل، في مواجهة ذلك الوجه السلبي الذي حاول الكثيرون ترويجه لشباب الإمارات، كم كنت ممتلئاً بالمعرفة والمعلومات والاستدلالات، لم تنقصك جرأة الإشارة المباشرة إلى مكامن الخطأ، كما لم تنقصك شجاعة تسمية الأشياء بمسمياتها، انطلاقاً من حرص واتكاء على قوة المعرفة، إن المعرفة قوة تحصين هائلة لا يعي قدرها إلا العارفون. حدثتني عن عالم الأدوية وتخبط السياسات الدوائية ودور الأهواء والمصالح والعلاقات، ومافيا الشركات الكبرى التي تتنافس للاستحواذ والسيطرة، حدثتني عن الخيط الرفيع الفاصل بين الأخلاقيات والأخلاق، بين المصالح والعلاقات، بين السياسة وشركات الأدوية، حدثتني بعمق وتشعب وتجربة، حدثتني مسهباً مسترسلاً، بعد أن تعبت من محاولات وضع الحصان أمام العربة ليستقيم السير بلا كوارث!! عزيزي... لقد أهديتني أفكاراً كثيرة وفتحت لي باب الرؤية على اتساع الأفق، فضاقت عبارتي عند كلماتك، وعرفت على وجه اليقين ساعتها أنه كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، لم أكن بحاجة كبيرة لدلالات اللغة لأقول لك كم كنت حكيماً وعارفاً، وكم هو جميل أن ينصت لك كبار أصحاب الشركات والمؤسسات العملاقة في العالم ، أليس رائعاً أن يكون لدينا شباب مثلك يجالسون كبار العالم مستشارين وخبراء معترف بهم؟ أينما ستذهب وأينما ستعمل فإن ذكرى ذلك اللقاء ستبقى محفورة في داخلي لشاب إماراتي رائع، أعلم يقينا أن الإمارات تضم مئات النماذج مثله، لكن مهنة الغوص بحثاً في أعماق البحار عن أغلى وأندر اللالئ، هذه مهنة غدت شاقة في زمن الحداثة. عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com