يروق لي أحياناً متابعة بعض زوايا وأعمدة بعض الكتّاب العرب المستنيرين في بعض الصحف العربية التي تصدر هنا وهناك. فالاستنارة تعني بالنسبة لي رفض الثوابت والمفاهيم التي أنتجت في زمن ماض لضرورة واقع ذلك الزمن.
قليلون هم الكتّاب الذين يدركون توالد المستقبل من رحم الحاضر، لذا يرون ببصيرة المستنير أن التمسك بما نسميه الثوابت ليست سوى أقنعة تتحرك تحت سطحها ضرورة التطور وقانون التجدد، لذا فحتى أولئك الذين يرتدون هذه الأقنعة يعيشون تناقض الازدواج بين التشبث والتكرار في العلن، والخروج عليه في الخفاء. وليس هذا التشبث الظاهري سوى تعبير مبطن عن الرغبة في الهيمنة والتغفيل، سواء كان ذلك في التعامل اليومي بيننا وبين الآخرين، أو في الخطاب الذي يدعي أننا بشر ولدنا معوجّين وضالين أبداً!
إن الفرق بين الخطاب المستنير الذي يضطلع به قلة من الكتّاب والمثقفين العرب وبين الخطاب السلفي الذي تعج به وسائل الإعلام على تنوعها، هو الفرق بين خطاب المستقبل وخطاب الماضي، وبين الخطابين لا يمتد إلا جسر التهديد والوعيد والتنكيل والموت!
في العتمة التي تحيط بنا، تصبح الكتابة النوعية مطلباً إنسانياً وحضارياً من أجل التغيير والارتقاء بالإنسان والحياة، وتصبح الثقافة المستنيرة ضرورة ملحة في مواجهة خطاب الظلامية المستشري. ونحن لسنا بحاجة إلى الاجتهاد والتنقيب في ركام التراث والفكر السلفي للرد على خطاب الظلامية، فمثل هذا الانهماك يسقطنا في شباك هذا الخطاب دون وعي منا، وننصرف عن تكريس الخطاب العلماني المستنير الذي يمجد الحياة والتطور والسلام المفقود في كل شبر من هذه الأرض. ويتجاوز خطاب العدمية الذي يحاصرنا على مدار السنين، ويصادر حقنا الطبيعي والإنساني في الحرية والكرامة والسلام.
نساء ورجال، وعلى قدم المساواة نحن بحاجة إلى قول (لا) لكل خطاب ينتصر للموت تحت أية ذريعة. نحن بحاجة إلى أن نعلّم أطفالنا منذ طراوة المهد أن المقدس هي الحياة.. أن نعلمهم الانتباه والوعي بما يحيط بهم، لأن الوعي هو أقصى درجات الانتباه للحياة، من أجل إدراك معنى الحاضر والمستقبل. نحن نعرف أن جذور الاستبداد مستشرية في تاريخ البشرية منذ عصور بعيدة، متقنّعة بمفاهيم وتقاليد تسري في سلوكنا اليومي، وموقفنا السلبي من الإنسان والكون والكائنات والطبيعة، لكننا نعرف أيضاً أن القانون الأعظم للحياة هو التطور.. وبقوة هذا القانون تفنى جذور وعصور، لتولد جذور وعصور جديدة!