أسوأ أذى يمكن أن يتسبب به الإنسان لنفسه، هو عندما يتحالف مع حفاري قبره، بتعبير التشيكي ميلان كونديرا في روايته “الخلود”. على المستوى الفردي، تبدو المسألة نوعا من الانتحار، وهو فعل محدود التبعات، بغض النظر عن التحريم والتجريم الديني لقضية الانتحار. أما حينما يتجاوز مثل هذا التحالف الفرد إلى الجماعة، الجماعات، المجتمعات، الدول، فإنه يتحول إلى مجزرة. تحضر هذه الفكرة في ذكرى هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأميركية. تحول مركز التجارة العالمي في نيويورك، خلال لحظات، إلى قبر جماعي، ليس لثلاثة آلاف قتيل سقطوا فيه، ولكن لعوامل الاستقرار والحوار مع الآخر في هذا العالم. وبعد عقد من الزمن، يبدو هذا القبر الجماعي أكثر اتساعا. أمامه أعلن تيري جونز من غينسفيل من أعمال فلوريدا، نيته حرق نسخ من المصحف الشريف. صحيح إن دعوة هذا القس المغمور اندلعت ثم انطفأت، لكن استثمارها لم ولن يتوقف. عند كل أزمة عاصفة، سوف يظهر مغمور أو مشهور، لكي يتجرأ في الأرض على كتب السماء. مثل هؤلاء المتجرّئين لن يشعروا بالعزلة، مهما علت صيحات الاستهجان. فهم ليسوا وحدهم. إنهم طرف في معادلة. أعضاء في تحالف، بين حفاري قبور متحاربين. يتحوّل الجميع في مثل هذا التحالف إلى آلات قتل، كما في أفلام الخيال العلمي التي تصنعها هوليوود. يموت البشر وتبقى الآلة الجهنمية. يمجّد الموت وتدنّس البطولة. يفنى الغنم ويبقى الراعي في أرض يرتوي عشبها بالدم. لم يحدث أن كان الموت لعبة، إلا في روايات آغاثا كريستي المفعمة بالتشويق والإثارة والشك والاتهام، قبل سطوع اليقين. يجهد (المفتش بوارو) نفسه طيلة صفحات الرواية وعلى امتداد أحداثها، بحثا عن القاتل المفترض، لكي يوقع به. والقاتل هنا هو كل من وجد في مسرح الجريمة، أو كان على صلة بالضحية. تصبح مهمة (بوارو)، فوّارة بالمتعة. يصبح الموت مسلّيا. وعند اكتشاف القاتل تتوقف اللعبة، وتنتهي التسلية. الموت عند تحالف حفاري القبور، لعبة لكنها غير مسلية. هناك من يحاول تسويقها على هذا النحو من خلال برمجتها في الألعاب الإلكترونية، التي تأسر الصغار والكبار. لكن لعبة الموت في الواقع تمتلك ألسنة نار حارقة، ودفقات ملطِّخة من الدماء. لعبة تنمو في بيئة فكرية قاحلة، حيث “لم يعد هناك في الواقع شيء يتطلب قدرا من جهد الفكر أكثر من الحجج المخصصة لتبرير انعدام الفكر” بحسب تعبير كونديرا أيضا. في مثل هذه البيئة يصبح الموت لازمة، لأن الحرب ضرورة. الحرب هي الوجه الثاني للأمم إذا كان وجهها الأول ثقافي. الحرب هي، بمعنى ما، وجه ثقافي، يحتضن الجنة والجحيم، المجد والعار، عند كتابة تواريخ الأمم. فيصبح هذا الوجه الثقافي مثل (المفتش بوارو) الذي يستخلص سمعته في الحياة من لدن الموت. الحرب والثقافة هما ابنا انحراف يدعى التاريخ. والتعبير أيضا للروائي التشيكي. يأخذ كونديرا المثال الأوروبي مقياسا، ويقول إن التاريخ هو هوس المضي إلى الأمام، في سباق تتابع يسبق فيه كل شخص سابقه لكي يسبقه من سيخلفه.. قد ينتج مثل هذا السباق ابتكارات، أو فنون، لكنه عندما يصبح سباقا بين حفاري القبور، فما الذي سوف ينتجه؟ adelk58@hotmail.com