زار أحَدُ وزراءِ الطّبّ، في أحدِ البلدان العربيّة، جمهوريّة كوريا الجنوبيّة، فبدأ وزيرُ الطبّ الكوري يُزِيرُ زميلَه العربيّ بعضَ المؤسسات الطبيّة في بلده، فبدَا الإعجاب والرضا على وجه الوزير العربيّ الذي لم يتمالك من شدّة إعجابه بما شاهد من منجَزات طبيّة مذهلة أن سأل زميله الكوريّ: بأيّ لغة تدرّسون الطّبّ، يا معالي الوزير؟ وكانت دهشة الوزير العربيّ عظيمةً حين أجابه زميلُه الكوريّ: “بالكوريّة طبعاً”! إنّ من المؤكّد أنّ الوزير العربيّ، وهو مشرقيّ، كان ينتظر من زميله الكوريّ أن يجيبه: بالإنجليزيّة طبعاً! ولو كان هذا الوزير مغاربيّاً لكان انتظر أن يكون جواب زميله الكوريّ: بالفرنسيّة طبعاً! إنّ كلّ ذلك يعود إلى أنّ العرب المعاصرين تخيّلوا ثمّ خالُوا، كما يقول أبو العلاء المعري، إنّ هذا العلم الذي يسمَّى الطِّبَّ لا يجوز، شرْعاً ولا قانوناً ولا اعتقاداً، أن يدرَّسَ بأيّ لغةٍ من لغات البشر، إلاّ بلغة الإنجليز. ومن خرج عن ذلك، أو خالَفَ عنه، فكأنما ارتكب إثماً عظيماً؛ ومن قال غير ذلك فقد قال بهتاناً شنيعاً! إنّ من أَمَارتِ ضعْف أمّة من الأمم تهاوُنَها في شأن لغتها التي هي مرآةُ حياتها الاجتماعيّة بكلّ أبعادها، والالتجاء إلى لغة أجنبيّة تصطنعها فترتفق بها في مرافق حياتها اليوميّة والعامّة جميعاً، وهي لا تُحِسّ بذلّها ولا بعارها. وبحكم أنّ العرب أصبحوا أعجزَ الأمم وأضعفَهم سياسيّاً وحضاريّاً، فإنّهم نَسُوا أنّ غيرَهم من الأمم هم الذين كانوا يدرّسون الطّبَّ أوّل الأمر باللّغة العربيّة، وهم الذين كانوا يشدّون الرحال إلى الأطباء العرب، ليتلقَّوا عنهم أصول هذا العلم في قرطبة وغيرها من عواصم العلم والحضارة في العهود العربيّة الزاهرة، وذلك قبل أن يتخلَّوْا عن استعمال اللّغة العربيّة، لأنها لم تكن لغتَهم، ويترجموا كتب ابن سينا الطبية إلى لغاتهم فيدرّسوها في كليات طبّهم كما فعل الفرنسيّون في كلية الطب بجامعة مونبيليي حيث ظلّوا يدرّسون أحدَ كتب ابن سينا إلى سنة 1935، كما قرّرت ذلك المستشرقة الألمانيّة سقريد هونكي. وإنّا لا ندري ما ذا يقول وزراء الطبّ العرب حين يتلاقَون دوريّاً ليتدارسوا قضايا الصحّة في العالم العربيّ؟ غير أنّ من المؤكّد أنْ لا أحدَ منهم أثار يوماً مسألة الرجوع إلى تدريس الطبّ باللغة العربيّة، إذا استثنينا بلداً عربيّاً وحيداً ظلّ كالنشاز في هذه المنظومة المشوشة... لقد جاءنا مجموعة من الأطبّاء الشباب حين كنا رئيساً للمجلس الأعلى للغة العربيّة، وأكّدوا لنا أنّهم قادرون، يقيناً، على تدريس الطّبّ باللّغة العربيّة ولا حرجَ. ولكنْ... إنّ العربَ كأنّهم يرَون أنّ من حُسْنِ السَّمْتِ السياسيّ، وأَنّ من أَمَارات البَرِّ بأهل الغرب، أنهم يأتون أشياءَ ناشزة بأعيانها تسيء إلى تاريخهم وشخصيّتهم العربيّة المجيدة، ومنها اتّفاقُهم على اختلافهم، على تدريس العلوم باللغات الأجنبيّة في بلدانهم، وكأنّهم ينوون أن يظلّوا على ذلك عاملين إلى يوم الدين، أَحبَّ مَن أحبَّ، وأبَى مَن أبى!