في العصر الأول، كانت ثورات ضد الاستعمار، بشعار مُسيَّج بمشاعر هاجت ثم ماجت، ثم فارت ثم ثارت، حتى خارت ومارت، وانتهت أجراماً تتصادم، فتتساقط في صحاري رملية متحركة، شعار مفاده “إلى غد مشرق، وإلى أمة عربية واحدة” أما بعد، فإن الثوار مسخوا الحكاية، وصارت وشاية، وغواية، فتربع الثوريون على الكراسي المخملية، يصولون ويجولون، ويجوسون ويدوسون على مشاعر البسطاء، والمهمشين والمعدمين، أما الثروات فذهبت جفاء كالزبد، تذروها ريح المطامح والمطامع الشخصية، التي أدت إلى الإطاحة بالطموحات، وهدر الثروات في شراء الأسلحة الفتاكة، التي ما كان لها من مكان غير خزائن الصدأ والبلاء المستفحل، ومن شاهد القرى في بنغازي المبنية من صفيح العدم، يخرج منها السكان كالخارجين من الأجداث إلى يوم الحساب، كالحين مكفهرين، يشفهم الفقر، ويجلي عن وجوههم الفرحة ما استعر في قلوبهم.. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الإنسان العربي، كونه إنساناً يحمل مشاعر القصيدة العربية، المعنونة، نحن الشباب لنا الغد، ولكن الغد يهر من بين الأصابع، كالماء المنساب من علٍ، حتى فار التنور، واشتعلت الثغور واحتقنت القدور، فجاء عصر الثوار الآخر، ثورات تجلّت بأثواب الديمقراطية والخروج من صهد الغش السياسي، والاتجار بالمصائر، ثورات اعتلت منابر وصيحات ساورت كل مكابر، حتى أن العدوى بدأت تنتقل إلى أماكن أخرى، آمنة مستقرة، رغيدة، ولا أعتقد أن أبناء هذه الأوطان، يعيش سواهم مثل ذلك في مناطق بؤر الثورات، ولكن ربما هي موضة العصر الثاني لمن يتحدث عن الديمقراطية ويمضغها.. هؤلاء يفكرون في الديمقراطية، ويتغنون باسم عصر أصبح أنشودة تغرد بها ألسن الغربان، والجرذان، وكل حيران لا يعرف مآله من مقاله، ويصرخ متذمراً، برماً، نريد الديمقراطية، وتأتي الديمقراطية في بعض البلدان، فلا نجد غير صراع الديكة، ولا نرى غير “غتر” تتطاير، و”عُقُل” تتهاوى على رؤوس الأشهاد، وشتائم وسباب، وكلام بذيء ما أنزل الله به من سلطان.. لماذا؟ لأن المتحاورين محنقون، ناقمون على أي شيء، حاقدون على كل شيء، والهدف ليس الديمقراطية بحد ذاتها، وإنما لماذا لا أكون أنا ويكون غيري؟. هذا هو مربط الفرس، وللأسف أن هؤلاء غير مؤهلين، وليسوا مهيئين لأن يكونوا ديمقراطيين، بقدر ما هم ديكتاتوريون، صغار يعلكون الديمقراطية لأهداف شخصية، مرضية، عفنة، وخطيرة إلى درجة الدمار والخراب.. “ديمقراطيون” بصفات الأخطبوط، ومميزات الحرباء.. متلونون بألوان الفصول.


marafea@emi.ae