في ذكرى رحيله العاشرة، يصعد محمود درويش جبل الشعر العربي وحيداً متجدداً وأنيقاً في جملته الشعرية وفي رؤاه. متكئاً على جرس أغنية بعيدة، وعازفاً على وترٍ خائفٍ في الكمان. كأنه أسلافه، يأتي إلى القصيدة كي يأتي إلى القصيدة. خارجاً من وحشة الخندق، ومن بين أصابع يديه تتسلل أنهار كثيرة. مرةً حين وقف على تلٍ ليرى امتداد الحزن في جغرافيا الخوف. ومرةً حين اشتبكت ظلاله مع الظلال الغريبة، فسقطت من جيبه نجمة الأمل الأخير. اليوم، نناديه صمتاً. ويلوك الشعراءُ الكلام لعلّ الكلام يصيرُ أصفى، ولعل خيط القيد الخفيف يُقطع بجناح دوريّ. هات الحصان واصعد، يا حامل المفاتيح، وما من بيوت ولا أبواب ولا أشرعة. لا شيء سوى أنين اليمام المسافر يكبرُ في فراغ الأوطان الدائخة.
يطيرُ الحمام، وعلى جناح المسافة يهطلُ مطرٌ غزيرٌ، فتئنُّ في ليل قسوتها الحجارةُ، وتصير بيتاً للحرية المرتجاة. وكلما تنهّدت سفرجلةُ، فزّ منجلها كي لا تهتدي البراعم لمطلع الشمس. قل لحبيبتك القصيدة: تعالي، ولكن لا تنتظرها. فقد تكاثرت الأحذية الثقيلة على الورق المتساقط في الخريف، وبدلاً من الناي، ارتفع صوت الخشخشات أعلى من مآذن النص. في كل زاوية هراوة كي لا يمتد ظلٌ أو يستطيل. وما يقالُ علناً في الأبواق، مجرّد مديح لهزائم الماضي. لا شكل للروحِ في المرآة، لا وصف لطبيعة الحب إلا أنه تذكرة لقطار لا يأتي. الحصار الذي نسيته على حدود قلبك، امتدت عروقه إلى الساعات. والوطن الذي كنت تسمّيه: أبي، وناديت خيوله كي لا تفرُّ، تفتّحت حروفه في المزهريات ولكن النوافذ لا تزال مغلقة.
من يسرد سيرة الياسمين مهملاً على رصيفٍ منسيّ؟ من يُحصي الرماح التي تطرق الأبواب في ليل العسس؟ ومن يعدُّ ولائم المقصلة؟ ركب الصبرُ حماره ودلف بين متاهتين ولم يعد. وقيل أن الذكريات تجمّلت بأحمر الشفاه، ولكن لم يقبّلها أحد. الناسُ حشرٌ في معبد الوضوح، وأنت مخبّأ في معاطف الجبال وصوت معناك سلالات نشيد ومديحٍ للظلال العالية. كلما أشعلت الأسطوانة، احترق الرغيف. وكلما شربت قهوة الصبح، اندلق على قميصك حبرها. ومن الخليج إلى المحيط، سيحلّقُ طائر القصيدة، ويحومُ، بحثاً عن عشّها. كأن له جناحاك، وبعضٌ من رحيل دمك في شرود غيمة آتية.