صحوت قبيل فجر أمس على غير عادة، وكأن هاجس فَقْد هو من أيقظني، ليس حلماً، ولكنه ذاك الشيء المتماهي بين الحلم واليقظة، ولا شيء يخيم عليّ في ذاك الحين، إلا ذكر الشاعر والصحفي والمثقف اليمني والزميل «فضل النقيب»، لما اليوم يا فضل؟ وأين ركضت كل تلك الأيام يا صاحب كتاب «دفاتر الأيام»، فقلت أتصل بصديق مشترك لأسأل عنه من بعيد، وأعرف أين مستقره؟ بعدها أتواصل معه، ثم أيقنت أن الوقت غير مناسب للاتصال بالزميل «علي العمودي»، وانتظرت رغم أن الهاجس يطرق عليّ بشدة حتى منتصف النهار، وحين اتصلت، كانت دهشة الصديق: «وين يا أبو منصور.. فضل توفي منذ سنوات في برلين، وبصمت»!
هل هي السنون التي تغيّبنا أم نحن الراكضون خلف زمن متسارع لا يمهلنا؟ لا عذر لعدم السؤال كل هذه السنين التي مضت، غير أنني أحب أن أترك الآخرين يمضون خريف عمرهم في وحدة يفضلونها، وصمت أقرب لصلوات المتأمل يفرحون بها، لكن لا عذر أيضاً أنه لم يشيّع بذكر في صحفنا، رغم أنه اشتغل في معظمها، وعمل هنا، وعلّم، وانتهى به الأمر مستشاراً ثقافياً في سفارة اليمن في أبوظبي، كنت أراه بين الحين والآخر في زوايا المدينة، ربما كانت الأسفار المتتالية، وحضوري المتسارع فيها، وعجلة الحياة المندفعة كعربات النار، كانت تؤجل ما لا يؤجل، غير أنه اليوم حضر وبقسوة قرع باب الذاكرة، فليت جائزة الصحافة العربية والأخت «منى المري» الجميلة بكل شيء، بفعلها وروحها ووعيها، يلتفتون لتكريم كل من عمل في صحافتنا من إخوة وأشقاء، وغادرونا، وكانوا والشرف صنوان، وتقدير كل عام يذهب لكوكبة منهم، وهذا أقل القليل، لأناس قدّموا الكثير!
وما كاد النهار أن ينقضي حتى اتصل بي الصديق «بسام فريحه» لينقل لي نعي الأستاذ والصحفي الكبير، ويكاد يكون آخر رجال صحافة لبنان الحر والجميل من زمن العمالقة والمعلمين «رؤوف شحوري» الذي غادرنا بعمره وعمله الذي امتد 85 عاماً، قضاها وسط الأوراق والأقلام والأحبار والأخبار في بيروت وباريس والكويت، كان مخلصاً لعمله، وفي عمله، ولكل المؤسسات التي تولى فيها إدارة التحرير، والكتابة الصحفية «دار الصياد»، «القبس»، ومجلة «الوطن العربي»، بعض ممن تعلمت منهم حبر الصحافة، وبياض وسواد القرطاس، المهنية، والفضول، ومعنى الشرف الصحفي، والمواظبة، وبعضهم علمني كيف يمكن أن نجمع بين لا ونعم في سطر، وبعضهم علمني معنى السهر كطائر الليل، والبعض الآخر علمني الفرح بحب الأوطان، «رؤوف شحوري» يمكن أن يختصر لك كل تلك الأشياء، ويغرّها لك كمشروب معسل بالحب والود والدفء، وكأنك ابنه.. لأرواح الزملاء وأصدقاء المهنة، وأحبّة القرطاس والقلم وما يسطرون، السكون والراحة والطمأنينة السرمدية.. المُوِدّ دائماً وأبداً..