الحاجة للانتماء مطلب ضروري ملح، وهي حاجة أصيلة لدى الجنس البشري، صحيح أن بعض الحيوانات لا تكتمل مسيرة نموها ولا تتمكن من البقاء على قيد الحياة إلا ضمن قطيع تنتمي له وتأمن على نفسها فيه، إلا أن تشعبات هذه الحاجة لدى البشر تزيد على ذلك، فهي أكثر وأشد عمقاً؛ فالإنسان خصوصاً في العالم المتحضر يحتاج باستمرار إلى الشعور بالاستحقاق وهذا لا يأتي إلا ضمن جماعة ينتمي لها تقدر وجوده وتمنحه ما يعتقد في نفسه. ولكن هل بالفعل الجميع مستحق لذلك؟!
لدينا نحن البشر قدرة على تخيّل أنفسنا في حالات افتراضية، بمعنى أننا موهوبون في رسم خيالات مختلفة نضع أنفسنا فيها، فنتخيل أنفسنا في أماكن بعيدة أو أوضاع يُعتقد أنها مستحيلة وبيئات غريبة، وهذه الملكة العقلية هي سبب ما وصل إليه الإنسان من تطور في المجالات كافة، فحلّق في السماء واكتشف القارات وسبر غور المحيطات. إنها ميزة عظيمة، ألا أن لها وجهاً آخر يعد وبالاً على صاحبها عندما يجعله خياله يعيش حالة فيها أشياء مختلفة عما يعيشها فعلاً، فيشعر بالسعادة فيها ولا يتركها، وفي ذات الوقت لا يحرك ساكناً لتحويلها لواقع فعلي!
هو الذكي الخبير المُجدد المتفوق، وهذا كله من دون أن تكون له تجربة حقيقية لاختبار ذلك. هو المستحق الجدير بكل شيء من دون أن يقدم أي شيء في سبيل هذا! يمضي البعض حولنا في هذه الحالة، فتجد الفرد منهم وبلا وعي يتعامل مع من حوله على أساس ما يعتقده عن نفسه في خيالاته؛ ولأن واقعه الذي يعرفه كل من حوله - إلا هو - لا يعطيه هذا الاستحقاق فلا يلقي له الآخرون بالاً، فيبدأ هذا الحالم الذي يعيش خيالاته التقوقع في عالم منعزل عن الجميع الذي يصبح - بلا أي ذنب وحتى من دون أن يدري - عدواً له.
حسناً.. هذا واقع مؤلم، وللأسف يُعد حسب علماء النفس حالة مرضية تؤدي بصاحبها لحالات اكتئاب خطيرة غير محمود عقباها. غير أن أشد ما فيها من ضرر كونها تسير في كيان المريض بها ببطء شديد وتتغلغل في كيانه، لدرجة لا يمكن أن يلحظها المحيطون به، إذ يظهر في بادئ الأمر وكأنه طموح مقدام ولا يلبث أن يجد حوله من يغرر به، ليتحول إلى مظلوم مُحارب ممن حوله. وهكذا تنتهي حياته على هذا النحو فلا يتقدم، ويركن إلى خياله الافتراضي الذي يعززه ركونه للسكون، كون أي تحرك له قد يوقظه من حلمه على كابوس حقيقته الفاشلة.