بدت الأم منتشية بتلك اللثغة التي تنطق بها ابنتها مخارج الحروف الإنجليزية. كانت تجلس بفخر بين جاراتها، وهي تستمع لابنتها التي تؤدي أغنية إنجليزية أمام الحاضرات. شعور الفخر يطفح من ملامحها، فها هو تعليم ابنتها في المدارس الخاصة باهظة التكاليف قد أثمر ثماره، البنت تنطق اللغة الانجليزية كالإنجليز تماماً وأفضل منهم. تغني الأغنية كالمغنية الأجنبية المشهورة، بلا أي لكنة في مخارج الحروف. لو أغمضت عينيك عن سمرتها وملامحها العربية وشعرها الأسود الطويل، واستمعت للصوت فقط ستظنها ابنة مارغريت وليست ابنة حمدة. صفقت الجارات لها وباركن للأم الفخورة، هكذا مستوى متفرد من الذكاء. الذكاء صار أن يبدو ابنك أجنبياً في الكلام، في نطق الإنجليزية السليمة. ولا يهتم الأهل كثيراً إن كان كذلك أيضاً في الشخصية والسلوك. الحقيقة أن اللسان يقوم بعملين: أداة وهوية، وبينهما شعرة. جميل جداً ومهم أن تتعلم لغات العالم إذا استطعت الحفاظ على هذه الشعرة، وظل اللسان الراطن باللغات الأجنبية هو لسان الأداة، وليس لسان الهوية. لكن إذا أصبحت لغة لسانك هي لغة قلبك صار الهوى غربياً، ومال القلب حيث موطن مخارج الحروف. وصارت العودة مهمة إنقاذٍ مستحيلة. أجيال كاملة من مخرجات التعليم الأجنبي، لا تعرف شيئاً عن ماهية الهوية، وغير معنية أساساً بهذه المعرفة الفائضة عن الحاجة. إذا جلس الولد أو البنت الشاب أو الفتاة، منهم ليتفرج على طقس من طقوس العادات والتقاليد بدا كالسائح الأجنبي الذي ينبهر بالفلكور الشعبي المختلف، فهو يرى نفسه مختلفاً، لا ينتمي لهذه المجموعة من البشر. وهو لا يلام، فمكونات ثقافته الفكرية مختلفة؛ الذي تلامس معه متعة الاكتشاف الأولى بالفهم والتعلم والإدراك، وتشارك معه شهقة الدهشة، وغمرة الضحك، وفك الألغاز والأحجيات، وحل المسائل، وانتصار الوصول كان أجنبياً على طول الخط، نحن نتشكل في المراحل الابتدائية، في المدرسة أكثر من البيت، وفي رجوح كفة المدرسة لكثافة التعليم الخاص وتدني كفة البيت لانشغال الأهل، تصير مصادر ثقافة الطالب جميعها تضخ من الـ «هناك»، أما الـ «هنا» فهو فقط مكان لممارسة العيش المادي بحكم واقع مسقط الرأس. وما الهوية سوى ثقافة؟. الهجرة ليست أن تلملم أغراضك في صُرّة وتسافر إلى البعيد. فكم من مهاجر أخذ الوطن معه. ولكنها أن تأخذ قلبك وعقلك وتسافر بعيداً وإن لم ترحل. وكم في الوطن من مهاجرين.