تتحدث النظريات الإعلامية الحديثة في مجال الاستجابة والتأثير في المتلقين عن الغرس الذي تتركه وسائط الاتصال الإعلامي ووسائله، حتى تصبح لدى المتلقين حقيقة لا يراجعون أنفسهم حولها، وتكون لديهم بمنزلة اليقين والمعتقد الذي لا شك حوله. وتطرح نظرية الغرس الثقافي عدة فرضيات حول اعتماد المتلقين على ما يسمى المصادر غير الشخصية لاكتساب الخبرة والمعرفة، ما يؤدي عبر التراكم إلى تكوين (واقع رمزي) ويُنتج من بعد صوراً نمطية تنغرس في أذهانهم وتوجه إدراكهم وأحكامهم وأذواقهم واختياراتهم، ثم يتسع مدى ذلك التأثير ليصنع وعياً مشتركاً هو نوع من أفق التلقي الجمعي الذي يصطدم بأفق النصوص وما تقدمه لمتلقيها؛ فيرفضونها بناء على ما وقر عندهم وانغرس في وعيهم وتربيتهم وثقافتهم، ما يحول دون تغيير الأساليب واقتراح البنى والأشكال الجديدة بل حتى قبول أنواع معينة وأجناس أدبية كالسيرة الذاتية والأقصوصة، أو الفنون الحديثة وتمثيلاتها البصرية في العمارة والنحت والتصوير، واستمرار فكرة تحريم التجسيد الفني للأشكال والوجوه، وتكفير إبداع المنحوتات أو الجداريات ذات المهمة الجمالية، وتنميط السينما كعامل تخريب للأخلاق والقيم، أو غرس الرداءة والسطحية والتهريج، وسوى ذلك من محددات التحول الاجتماعي المطلوب للمعاصرة. بهذا المقترح حول الغرس نستطيع فهم الشائعات الأدبية في ثقافتنا المعاصرة، وتداولية النص الشعبوي مثلا، ذلك الذي يتأسس بعيداً عن الشعرية والاشتراطات الخاصة بالنوع الشعري، وينخلق لدى المتلقي نجمه الذي يقارب بقصائده ذوق الجمهور، ويلبي أو يطابق تصوراته عن الرسالة الشعرية و مضمونها وشكلها؛ فلا يرى المتلقي ما في الحداثة مثلا من تجاوز للسائد وخلقٍ للأفكار والأساليب المتقدمة المناسبة للتراكم التعليمي والثقافي، والتطور في الوعي بجماليات المحيط ، ويستنجد المتلقي بما اعتاد تقبّله من نصوص في الوسائل الإعلامية التي يتعرض لمشاهدتها أو التعامل والتفاعل معها. ويزيد خطورة المغروس الثقافي عبر الإعلام تعدد الوسائط ودخول التفاعلية في برامج الإعلام وطرق الاتصال، وأعني تحديدا المواقع الإلكترونية ذات المساحة التفاعلية سريعة الصدى وقوية التأثير، وهي إن كان لها دور لا ينكر في الهبة الشعبية اليوم وتغذية الشعور الوطني لدى الثوار، وتشجيعهم على تحدي التابوات والقيود؛ فهي في الجانب التداولي الثقافي تشيع أنماطا ًمن النصوص المتخلفة والأساليب التراجعية التي تعود بالقصيدة خاصة والأدب عامة إلى جماهيرية مفترضة، لا تتوفر على جماليات الفن وعناصره البنائية، وتعيد الغنائية والمباشرة، وتعتمد الصوت والإلقاء لترسيخ فكرة الشاعر الجماهيري الذي يتلقفه الوعي الجمعي ويضعه مقياساً يقبل ويرفض على أساسه ما سيقرأ من نصوص لاحقة، فتتعثر سيرورة التقدم والتحديث في المجتمع. والأخطر اعتماد بعض الدراسات والبحوث الأكاديمية على تلك المصادر المعمقة للغرس وتنميته وإشاعته نموذجا ثقافياً تحت مسميات عديدة.