هل يكتب الكاتبُ، حين يكتب؛ لأنّه يريد أن يكتب، حقّاً، أم لأنّه يجب أن يكتب؟ أي هل الكتابة وجُوبٌ كما نرى، أم هي حرّيّة، كما يرى بارط؟ الكتابة حين يحين حِينُها لا يرُدّها رادّ، فقد كتب كثيرٌ من الناس بالعَمْدِ إلى جَرح عروقهم واتّخاذ دمها حبراً يكتبون به على الجدران والأحجار. فالكاتب حين يجب أن يكتب، إذن، لا بدّ له مِن أن يكتب؛ حتّى لو كان في غَيَابات السجون، وقَعَرَات الآبار. فهو في فِعْله ليس حرّاً. فالكتابة، إذن، ليست حرّيّة، ولا تسلية، ولكنّها واجبٌ وضرورة. فإذا أنَى أوانُ كتابةٍ كامنة في قريحة الكاتب فإنّه لا بدّ من أنّه كاتِبُها حتماً. ولقائل أن يقول: إنّ الكاتب يعرف، في الحقيقة، سلَفاً، كلّ ما ينتوي كتابتَه؛ غير أنّ هذه المسألة ليست مسلّمة بهذه البساطة؛ بل لا نراها إلاّ توهّماً غامضاً، وتصوّراً شاحباً. أي أنّ المخاض الفنّيّ لا يعدو أن يكون وهميّاً، أو أَولى له أن يكون كذلك شأناً. ذلك بأنّ الغياب، بل العَدَم، هما المسيطران على هذه اللّحظة التي تشهد ميلاد اللّفظ الفنّيّ، الذي ينشأ عنه ميلادُ النّسْج الفنّي الكامن في القريحة، أو الْمُخيلة بالقوّة، والذي يتولّدُ عنه تجلِّي مُثُولِ الكتابة بالفعل؛ حيث تنتشر هذه الكتابة فتتّخذ لها أحيازاً من نسْج الألفاظ مختلفةً على قرطاسٍ، أو على شاشة حاسوب: فتغتدي نشْأً جديداً. فهذه السِّلسلة من المتلاحمات الفنّيّة التي تتواثب في القريحة، من ألفاظ شاردة، إلى نسوج ماثلة؛ هي التي تُفضي، في الحقيقة، إلى ميلاد النّصّ الذي هو ابنُ الكتابة. وهذا النّصّ الماثل هو الذي يعلن ميلاد أدبٍ جميلِ القسمات، بهيّ الطلعة: فيكون جنساً من الأدب نطلق عليه روايةً، أو قصة، أو قصيدة، أو أيّ شكل آخر من أشكال الكتابة الفنّيّة... وإلاّ فأين تكون الصورة الزيتيّة قبل أن ترسمها ريشة الفنّان فتُجَلَّى للمتلقّي في ألوان متناسقة عجيبة تنطق بلغة سِيمِيَائيّة أبلغ من السّمات اللفظيّة نفسِها، فتراها تعبّر عن نفسها بلسان الحال، وتبلّغ رسالته الجماليّة في كفاءة مدهشة؟ ثمّ أين تكون الرواية قبل أن تصبح رواية؟ فهل تكون مسجَّلة كلّها في قريحة كاتبها، أو تكون مسطورةً في مُخيلته، أو قابعة في قرارة قريحته، بتفاصيلها المتشعّبة، وحوادثها المتسلسلة، أو غير الْمُتَسَلْسِلَةِ، الزّمانِ؟ إنها كانت حيث كان الجنين قبل أن يتخلّق في رَحِم أمّه... إنّ الكاتب لَيُنْشِئ كتابته في لحظةٍ إنْ لا يَفْقِدْ فيها ـ كلّ الفقدان ـ الاختيارَ، فهو لا يمتلك فيها أيضاً إلاّ فعْلَ الاضطرار... فهو لا يملك، مثلاً، أن يرفض الموضوع الذي يكتسح وَهمه اكتساحاً، فيملأ عليه نفسه وقلبه وروحه. وحين يتشبّع وهْمُه بالموضوع الذي يودّ تناوُلَه، هنالك تنهال عليه الألفاظ انهيالاً؛ فيقع النّسْج الفنّيّ بهذه الألفاظ الشاردة التي لا تلبث أن تكوّن نظاماً لغويّاً جميلاً هو الذي يحدّد هويّة هذا النسج وطبيعته وجنسه.