ونحن صغار أكلنا التراب حتى شبعنا، فلم نكتفِ باللعب فيه، بل إنه كان غذاء لذيذاً لدى الأطفال عندما لا يجدون ما يلتهمونه.. واليوم تدلل دراسة أميركية على أن شعوب العالم وعلى مدى امتداد حضارات الشرق والغرب قد أكلت التراب لأن في الرمل عافية، ومضادات حيوية طبيعية تحمي جسد الإنسان من الجراثيم والطفيليات.. هذا يعني أن أطفالنا كانوا علماء صغاراً، وكان الكبار يسخرون منهم ويعنّفونهم، ويزجرونهم، ويعتبرون أكل التراب شيئاً مقززاً، كون التراب يحمل أرتالاً من الأوساخ والقاذورات، وبقايا عظام ومحار، وحصى، وفضلات الحيوانات، الدراسة التي جاءت بـ 480 تقريراً عن ثقافات العالم تدحض كل ما فعله الآباء بحق صغارهم، وتؤكد صحة فطرة هؤلاء الصغار وأنهم كانوا يفعلون الصواب عندما كانوا يشعرون بالإحباط والقنوط، كلما نُهروا من قبل الوالدين، وكانوا على صواب عندما كانوا يصيحون محتجين على ديكتاتورية الوالدين الذين لا يدعونهم يمارسون ما تفرضه عليهم فطرتهم، وما تدفعهم إليه الحاجة.. وكثير من العادات التي كانت تعتبر سيئة أثبتت الدراسات العلمية بعد حين أنها صحيحة، بل وملحة لحياة الإنسان.
فمثلاً كان أحد الوالدين عندما يشاهد طفله يقف أمام المرآة، ويحدث نفسه يصرخ في وجهه قائلاً: أنت مجنون.. فيتراجع المسكين مخذولاً مكسوراً منصاعاً لأوامر ونهي الوالد، لكن هذا الخنوع تكون له أثمانه الباهظة.. فالطفل وبعد سن الرابعة والخامسة، يبدأ عنده مرحلة تكوين الذات واستكمال مستلزمات الشخصية المستقلة، حيث يبدأ في التطلع إلى جسده بدءاً من وجهه فيقف أمام المرآة ليحدث شخصه الذي هو شخص آخر يحدثه بحرية وشفافية دون خوف أو ضغوط أو خجل.. يحدثه على اعتبار أنه شخص آخر يحبه ويتوافق معه في الرأي، بل والطموحات فنجد دائماً ما تكون الابتسامة على محيا الصغار مشرقة وهم يحادثون أنفسهم أمام المرآة.
وعادات كثيرة يستنكفها الناس وهي في الأساس نابعة من رغبة داخلية تعبر عن حاجة الإنسان إلى كثير من العادات لتنمية معالم شخصيته، وازدهارها وقوتها .. ففي تصوري لا أعتقد أن أباً أو أماً أو أختاً أو أخاً شاهدوا صغيراً لهم يأكل التراب، أو يقف أمام المرآة، وابتسموا له ولاطفوه وأخذوا بيده بهدوء إلى زاوية بعيدة وجلسوا معه وطرحوا عليه أسئلة تلائم سنه عن تصرفاته.. لا أعتقد لأن الناس فيما يعشقون مذاهب ونحن نعشق احمرار العين وتقطيب الجبين، والجذب بعنف حتى تخلع ذراع من نريد أن نردعه عن فعل نراه، شيء لا يناسب عاداتنا وتفكيرنا.. ولكن لو حصلت معجزة وعاد أحد الكبار إلى مرحلة الطفولة لشعر بقيمة الحديث مع المرآة.. أو أكل التراب.


marafea@emi.ae