السيف والدرهم والقلم
إن كانت مقالة الأمس وضحت بعضاً من إشكالية السيف والقلم، سيف الحمداني وقلم المتنبي، فإن إشكالية الدرهم والقلم تبقى بداياتها ونهاياتها مفتوحة ومشرّعة، وهي أكثر تأثيراً وأسرع فتكاً من وقع الحسام المهند، لذا تكسّب الشعراء وترزّق الكتّاب والمنظّرون، وقلما ترزّق شاعر فطحل، وإن فعل عدّت عليه عيبة وفعلة وخيبة، فالشاعر الفحل يقصد الملوك والسلاطين من باب تشبه الكريم بالكرام، أو علاقة نديم بمجلس، رأسه أمير، جواد وشهم وشجاع، لكنه لا يطرق باباً ولا يقف عند باب، من أجل عطيّة أو شفيّة، وهو حال يتفرد به المتشاعرون والشوَيعرون وحدهم، والذين يكونون أحياناً مادة للتفكّه والتندر وقلة القيمة، فبعض الأمراء يأمر لمثل هؤلاء بإعطائه ألف درهم، ثم يثنيها بالأمر بجلده ألف جلدة: ألف درهم على صدق بعض قوله، وألف جلدة على كذبه وتجمّله الذي بلا حد، لكن بعض هؤلاء الشعراء يردّونها لبعض الأمراء واحدة بواحدة، مثل ذاك الشاعر الذي فرّغ خزانة الأمير من الذهب، لأن قصيدته التي كوفئ بوزنها ذهباً، كانت على صخرة تجرها عشرة بغال·
يظل هذا التبادل بين الدرهم والقلم حينما يبالغ الشاعر في كذبه على شاكلة لولاك ما ظهر القمر، لولاك ما نزل المطر·· فيرد عليه الوالي بكذبة أكبر منها أن أعطوه ألف دينار وزيدوه ألف ألف دينار، وأكرموه بألف ألف ألف دينار حتى وقع أمين الخزانة مغشياً عليه، لأن ذاك المبلغ الذي أمر به الوالي يفوق ما فيها أضعاف أضعاف، لكنه في الآخر كذب بكذب، أو تجمل بتجمل·
إن الدرهم الذي يقف أحياناً مع السيف، يجعل منه أكثر مضاءً وإن تخلّى عنه ثلم نصله، وخفّت حدّته، والّدرهم إن التقى مع القلم، ترفت عبارته ولانت مقالته، وأصبح أربابه كمن ينتقي الوجع انتقاءً، وإن جافاه وخاصمه، كانت العبارة أنقى والمقالة أصفى·
إن إشكالية الدرهم تأخذ بعدها في كل المجالات، ولها تأثيرها على كل شيء في الحياة غير السيف والقلم، وأكثر هذا التأثير هو تأثيرها على النفس الأمّارة بالسوء فإن تقرب الدرهم منها وتمكن، فليس هناك مجال للطهارة والشفافية والرجوع إلى براءة النقاء والصفا، فأول قدم تصطبغ بوحل الدرهم تجر أختها، فالمسؤول الذي يدهن عمله بالعملة، ويسلّك أمور دنياه بخطايا دينه والدّرهم، ويقدم عمله الخاص على واجبه العام، لا يستبعد أن يبيع جزءاً من لحمه، ومن باع جزءاً من لحمه باع جزءاً من أرضه، ومن باع جزءاً من أرضه فرّط في وطنه وناسه·
نحن لا نطالب أن يكون كل العالم شرفاء وإلا غدونا في جنّات عدن، لكننا ننادي بالفضيلة والشرف والطهارة والوطنية، لأنها غايات نبيلة تسعى لها الأمم وأخلاق المجتمعات والأفراد، مثلما هو القصاص ينقي النفوس المظلومة والظالمة، ما يهمنا من خلاصة الموضوع أن نعمل السيف حين يختل تفكير وتوازن بعض الأفراد مفضلين الدرهم والدينار، على الوطن، طاعنين في القلم وأربابه، مستهزئين بالحسام ورجالاته، وأن نعمل القلم حينما يكون القلم أصدق رسول بين الناس، لا يخاف من سيف، ولا يتذلل لدرهم·