في واحد من مطاعم دبي الحديثة والراقية، جلست لتناول الغداء مع صديقة، عادت للتو من الخارج، كان المطعم يقدم لائحة طعام معتادة بالنسبة للجميع، المطبخ اللبناني العريق والمعروف بتنوع أطباقه ومذاقاته، لم يكن في الأمر أي مفاجأة من أي نوع، أغاني السيدة فيروز تصدح بعذوبة في أرجائه، ذائقة مصمم الديكور باذخة جداً، وتحيلك إلى أجواء لبنانية صرفة، الشاشة المسطحة تعرض فيلم بنت الحارس الذي قامت فيروز ببطولته عام 1968 مع الراحل نصري شمس الدين، والذي يقدم لك بوضوح تام مفردات وتفاصيل القرية اللبنانية، خاصة أن النسخة المعروضة قد استفادت من تقنيات إعادة التصنيع لتبدو بهذا الوضوح اللافت، لكن يبقى للمطعم أسراره مع ذلك.
على جدار المدخل علقت لوحات فوتوغرافية لأشخاص حقيقيين، يبدو واضحاً أنهم ينتمون إلى عصر لم يعد موجوداً، أزياؤهم، قبعاتهم، الاحتشام الجلي في ملابس الفتيات، الرسمية المبالغ فيها في ملابس الرجال، تأخذك إلى عصر الكلاسيكية العربية التي امتدت خلال سنوات الثلاثينيات وحتى السبعينيات من القرن الماضي، هذه الصور تستفز فضول الصحفي في داخلك فتسأل النادل، لمن الصور؟ تتوقع أن تكون الإجابة : إنها لأصحاب المطعم، وهنا لابد أن تستغل الفرصة لتسأل وما قصة المطعم؟ فيأخذك النادل إلى حكاية أقرب إلى الحكايات التي كانت تحكيها فيروز لأختها الصغيرة في الفيلم كي تنام، في حين أنك لا تريد أن تنام، تريد أن تعرف.
اسم المطعم يحكي حكاية صاحبته التي تعلمت فنون وأسرار الطبخ من جدتها، وحين ماتت الجدة، قررت البنت أن تنزل إلى المدينة لتفتتح مطعماً، تقدم فيه الطعام على أصوله، فافتتحت أربعة مطاعم، انتقلت إلى بلدان أخرى، إلى أن جاء الدور على دبي، تمرر الحكاية لتعرف البقية، وحين تعرف أن الحكاية انتهت بهذه الطريقة تكتشف بنفسك أن المطعم يبيعك حكاية رومانسية لا أساس لها من الصحة، كي يكتمل نجاح فكرة المطعم لا أكثر !!
أن تشتري فكرة قبل أن تشتري المنتج هي الفكرة التي قامت على أساسها الأسواق الأكثر نجاحاً في العالم، والإحالات النفسية والقيمية التي تحملها السلع والمنتجات هي البديل الموازي لطريقة البيع المفرغ من أي قيمة، إن الذين يقومون بتسليع الثقافة هم كثيرون، وقلة هي التي تنجح في هذه التجارة، قلة من يربط البيبسي كولا بالشباب، والبيتزا بالحرية، ومطاعم ماكدونالدز بالاستقلالية، وجمعة الأصدقاء القيمة قبل البيع، إنه النمط السائد في عالم اليوم، والخطورة لا تكمن في المنتج الذي نأكله ولكن في الفكرة التي تتسرب إلى داخلنا، وبالتأكيد فليست كل الأفكار خطيرة.
المهم ليس أن تصنع حكاية لكن المهم أن تقنع الناس بها، وتؤطرها بشكل متقن، أنت لا تكذب ولا تتجمل، فالناس تحب الحكايات التي تشببهم، يحبون النماذج التي تكافح لكي تنجح، وحين تنجح تتحول إلى “ماركة”، وأشهر القصص التي تجد لها آذاناً وجمهوراً هي القصص التي تروي حكايات مشاهير الفن والرياضة والاختراعات والعطور، وعلى الرغم من أن صاحبة القصة مجرد خيال لا أساس له من الصحة إلا التناغم بين المفردات لحبك قصة حقيقية من لاشيء هو في حد ذاته ذكاء، أما إقناع الناس بالأمر فهو عبقرية فعلاً، بشرط تكامل مفردات الصناعة الجيدة .


ayya-222@hotmail.com