دروبك نفيٌ إذا وقفت، ورمادٌ بعده حصادك. أنت الذي كُتب عليك أن تمشي مغمض العينين على الخط المستقيم. وأن تسدّ أذنيك عن صهيل المسافات وهي سجينة تحت قدميك. غير منتمٍ إلا إلى الوصول، وغير موالٍ إلا للنهاية، كأنها فوزك بالغنيمة التي لا يريدها أحد.
ستصل يوماً، ولكن عليك قبلها أن تسبح عارياً في نهر الذكريات الجارفة. مرتطماً ألف مرة بالصخرة التي اسمها النسيان، وموؤوداً في طين اليأس أحياناً، وأحياناً مطموراً في الفراغ الذي سيلتهمك عضّة بعد عضة، ناشباً نابه الوهمي في صوتك حتى قبل أن تنطق بالحقيقة التي تخافها. لكنك مع ذلك ستصل قبل الجميع لتشيّد أركان عزلتك وحدك. كأنك تفوقت على الموت، وسدّدت ضربتك القاضية إلى كل ما يشدّك كي تكون دونيّاً. وهناك، حين تسمو على فكرة الفناء، وتلمس بيديك عشبة الخلود الناعمة الطرية، ستدرك أنك لا تحتاج إلى الكمال، وأن وقودك للمضي قدما يكمن في الخواء الذي تظنه من عناصر نقصك.
ثم ماذا بعد؟ ستجلس لأول مرة على عرش ذاتك. بلا عيوب أو ألقاب، وبلا أسماء لا يدل معناها عليك. فقط أنت والنهاية أو بقاياها. وساعتئذ، لن يضرك لو انحرف التاريخ عن مجراه وصار مستنقعاً للغاطسين في الجهل. ولن تتأذى وأنت تعد الحروب وتراها تتكرر بالخطأ نفسه، ذلك لأن الغشاوة التي أعصبوها على عينيك في طفولة الخوف، ستكون قد سقطت، وما عاد العمى بصيرتك النافذة، وما عاد السكوت المر فصيح معناك.
ثم ستسأل: كيف أتقدم وأنا قابع في مكاني ورجلاي غائرتان في إسمنت الحذر؟ ولكن لن يهمك أن تجد الإجابة على الأسئلة المريضة. ولن يرضيك لو جلس الفلاسفة على شاطئ البحر، ورأيتهم يصفقون للموجة لأنها فمُ الغرق. ويحملون أسئلتك في سلالٍ مثقوبة ويرمونها في النار. لم يعد أحدٌ اليوم يروي سيرة أنك مررت من هنا يوماً، وأنك كنت تحمل أحلامك في كيسٍ، وتوزع أغنياتك مجاناً على الأطفال في مدارس التلقين. وتنقش على الجدران القصائد التي صارت أناشيد عشاق تبعوا خطاك إلى النهر وغرقوا وراءك.
لا شيء يدل عليك سوى أن الحب كان أمنية في خيال الرعيان، لكنه صار ناياً في أفواههم حين مررت عليهم. والأدهى، أن الأثر الذي تركته بينهم، كان مجرد خدشٍ على خد الريح.