تعرفت على الشيخ مبارك ـ رحمه الله ـ قبل سنواتٍ خلت عندما حثني الفضول وحفزتني المعرفة لرصد علوم الأولين وأسرار الماضي؛ فركبت سيارتي التي احتوى صندوقها على أدوات الصيد المتعددة، فهناك آلة للتصوير الفوتوغرافي وأخرى للتسجيل الصوتي، وثالثة للفيديو ولرصد كل معلومة ذات قيمة. وانطلقت مع زميلة لي، فكانت رحلة لا توصف وكأننا كنّا نعبر جسور وحواجز وحدود الزمن في كبسولة صنعها الشيخ زايد، طيب الله ثراه. في عمق رمال الظفرة وربوع غياثي، جلسنا مجلساً عامراً بسكينة الصحراء وجمال ما يراه البدوي في بيئته، وبعد وهلة قصيرة، دخل الشيخ مبارك مجلسه، فهب الكبير قبل الصغير يرحبون به، وهو يرحب بِنَا وبهم. جلس في صدر المجلس ونظر إلى الورقة والقلم بيدي وإلى أدوات الصيد، وقال «شحالكم وشحال المعازيب؟ فقلت له: نحمد الله وندعوه أن يوفقهم ويسدد خطاهم، الحمد لله ما حد يشكي باس، شحالك يا طويل العمر؟ فرد بتأنٍ: بخير يعلكم في خير». الذي يعرف الشيخ مبارك يعرف بأنه يحدق في عمق الفكر، ويستنتج أنقى المعطيات، ويدير الحوار بحنكة المتمرس في الدبلوماسية والإتيكيت، فهو قليل الحديث، بعيد النظرة هادئ، وفي ذلك الهدوء خطورة وجمال. وسرت أسأله عن طفولته وصباه، فكان متواضعاً، تذكر كل من حوله، نسي نفسه، وكأنه يقول لي ما ترصديه من علوم هي عنا جميعاً ولَم أعش بمفردي، كانت تضحيته بكبريائه واضحة، فهو نادراً ما يقول أنا أو كنت أو يضع نفسه في محور الحديث. ما خرجت به من لقائي به، ترك أثراً كبيراً في النفس والروح، ونكهة وعبيراً يطير شذاهما كلما شدني الحنين إلى الصحراء والماضي. هؤلاء هم الرجال الذين رافقوا زايد، طيب الله ثراه، فكانوا يستمدون شيمهم وأفضالهم من قيم البادية ومن شهامة البدوي ومن عمق آدمية الإنسان. في آخر لقاء بيننا هذا العام، قال «ماذا يقولون عن زايد، فَلَو درس الباحثون نهجه وفكره وفلسفته ورؤيته لعشر سنوات قادمة لن يفوه حقه. لقد رافقته وكانت الدروس كثيرة والزمن قصير... زايد ماحد حوله. والحمدلله عياله مب مقصرين قايمين بالواجب وزيادة. الله يوفقهم إن شاء الله». للعارفين أقول: رحم الله الباني المؤسس، فقد بنى في الإنسان الإماراتي قيماً لا يحيد عنها، ومسؤولية يضعها نصب عينيه. غفر الله للشيخ مبارك بن قرّان المنصوري، فقد كان رجلاً بكل ما في الكلمة من معنى، بل وكان من رجال زايد، طيب الله ثراه. وتعلمت منه أن الحوار لا يعتمد على السؤال والجواب، ولكن على حضرة الشخص وما يتطاير منه من علمٍ ومعرفة.