بين العقل والجنون شعرة رفيعة، قطعها أبناء البلقان، فقد فعلها الكروات وكان لهم ما أرادوا، عملوا واجتهدوا، وقاتلوا وصبروا، وأصروا وثابروا، وعندما تأخروا لم يقنطوا ولم يستسلموا، واصلوا حلمهم الذي جاؤوا به، وكان يكبر كل يوم، وأقسموا على استكمال مغامرتهم البطولية، فانصاع لهم الزمان، وسجل لهم ملحمة تليق بهم، «ملحمة الكروات»، فهم لم يكتفوا بما حققوه في المراحل السابقة، لم ينل منهم بالغرور، ظلت أقدامهم على الأرض حتى وهم يحرقون المراحل، أصروا على كتابة التاريخ بأنفسهم، فانحازت لهم كرة القدم. شوط أول في نصف النهائي أمام الإنجليز لم يظهر فيه الكروات، فقد بدأت المباراة ولم يدخلوا أجواءها، بل وكأنهم كانوا لا يزالون في غرفة الملابس، تأخروا في النتيجة، وكانت الأمور تشير إلى أن الإرهاق الذي تعرضوا له في المباراتين السابقتين نال من قواهم، وأتعب أجسادهم، ولكن في حقيقة الأمر أنه عندما زالت الرهبة، تغيرت قواعد اللعبة، ظهر الكروات في الشوط الثاني أسوداً ضارية، كشروا عن أنيابهم، وهاجموا بضراوة، واستحضروا كل إمكاناتهم، كان المجد يتراءى أمامهم، سجلوا التعادل، لم يكتفوا ولم يتراجعوا، بل واصلوا بالمحاولة حتى نهاية الوقت الأصلي بالتعادل الإيجابي. أشفق العالم كله على لاعبي كرواتيا، وهم يخوضون وقتاً إضافياً جديداً، مدته نصف ساعة للمباراة الثالثة على التوالي، لقد أصبح مجموع الأشواط الإضافية التي خاضوها مباراة سابعة بحد ذاتها، هم فقط الذين لعبوا مباراة إضافية عن بقية منتخبات نصف النهائي، ولكن هذا لم يفت في عضدهم، ولم تتراجع عزائمهم، كانوا يتلاعبون بمنافسهم الإنجليزي، كما لو كانوا في حفلة راقصة، سجلوا الثاني في الشوط الإضافي الثاني، ثم صمدوا وحافظوا على مرماهم، فكانت المشاعر متباينة، ومزيج من الفرحة والتعب أصابهم لما تحقق مسعاهم. كرواتيا تواصل التحليق بالحلم، أما زلاتكو فلا يزال يعيش في أرض الواقع، لم يدخل البطولة مرشحاً، ولم يطالبه أي شخص عاقل بالعودة إلى زغرب بكأس العالم، جاء قبل 9 أشهر لإنقاذ الفريق من مأزق التصفيات والذهاب بهم إلى موسكو، فاز على أوكرانيا في الحاسمة، وتخلص من اليونان بالملحق، تأهل إلى المونديال، ذهب إلى روسيا ففاز على نيجيريا والأرجنتين وآيسلندا، ثم تفوق على الدنمارك، وأقصى أصحاب الأرض، وأخيراً هزم الإنجليز، سيناريو خيالي مجنون لم يتوقعه أحد، فهل يخبئ للعالم مفاجآت أخرى، وهل تحتفظ له الأقدار بمزيد من المجد؟، هذا ما سنعرفه يوم الأحد.