استراحة الجمعة
أول مرة رميت بنفسي في لندن كان عمري 16 سنة، لا تسعفني محفظة مكتظة، ولا بطاقات ائتمان، كانت فقط ما يعرف بـ ''ترافلرز شيك'' ولا لغة غير اللغة الإنجليزية التي كان يعلمنا إياها المدرس الفلسطيني الأستاذ محمود، وهي لغة لا تستطيع أن تمشيك وتمشي أمورك محطة واحدة تحت ''الأندر كراوند''، كانت التجربة الأولى لزيارة أوروبا دفعني أبي إليها دفعاً، ولاقت حباً في نفسي، الآن لا أذكر من الرحلة أي طائرة ركبت؟ وكيف وصلت المطار، وعبرت الجمارك الإنجليزية، وأسئلتهم الكثيرة ؟ ويومها لم نكن بحاجة لفيزا؟ ولا كيف وصلت إلى عنوان العائلة التي سأستقر عندها ؟ ما أتذكره أنني سحبت حقيبة كبيرة وطلعت بها طابقين على درج خشبي يتطاقع تحت ثقل الصبي ذي 56 كيلوجراماً، أتذكر الترحيب الفاتر من زوج السيدة، وعدم المبالاة كثيراً من الزوجة، لم يبق إلا ابنهما جيسون، الذي كان لطيفاً رغم أنه لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، أما العداء الحقيقي فكان من زوجي القطط اللتين بادلتهما العداء نفسه، رغم الألفة التي كانت فيما بعد، وتمسحهما بي، إلا أنني كنت مجاملاً إن كان هناك حضور للعائلة كلها، إما إن كنت وحدي فلا أطيق أن يجلسا حتى بقربي، لم أحب أكل تلك السيدة الإنجليزية التي تعمله على عجل، ودون أدنى مهارة، فقط وجبة الصباح كانت لذيذة لأنني كنت أصحو جوعان، فبفضلهم عرفت الـ''كورن فليكس'' بالحليب البارد، والذي مازلت أحبه حتى اليوم، ويمكن أن أتناوله في الساعة الثانية والثلث ظهراً دون الإحساس بتأنيب ضمير، كما كنت أشتهي البيض باللحم، لكن بعد فترة من التلذذ به، وقبل أن أودعهم بقليل، عرفت في المدرسة أن هناك أكثر من أربع كلمات للحم الخنزير، غير كلمة الأستاذ محمود الذي حفظّنا إياها ''بورك'' وأن عجة البيض كان معها دائماً ''بيكون'' والـ''بيكون'' ليس لحم تويس صغير رضيع كما تهيأ لي·
من الأشياء التي كانت تغضب المرأة أن أفعلها، وكانت تستغرب منها حين تعود من عملها، أنني استحم وأغسل شعري يومياً، حاولت أن تقنعني أن هذا غير صحي لا للجسد ولا للشعر، ثم أنها غير ملزمة بتنظيف الـ''بانيو'' كل يوم، كانوا يطلبون مني الحضور قبل عتمة الليل، لأن العشاء عندهم مقدس وفي ساعة معينة، ولأنني كائن ليلي لم أتناول معهم طعام العشاء عندهم إلا مرتين، رغم متعة الحديث وتشعبه معهم، والذي كنت فيه مجيبا، وهم السائلون دائماً عن الشرق والعرب والبدو والجمل والمرأة والحجاب والحريم، ففي عمري الصغير ذاك، كنت مشحوناً بثقافة مبكرة وموسوعية بعض الشيء، وكانت مكتبتهم بها الكثير من الأعمال الأدبية العربية المترجمة، ما كان يضايقني كثيراً من الرجل تدخينه الغليون ذا الرائحة العطنة، وذلك البلغم الذي أصحو مجبراً وهو يهم باستخراجه يومياً من رئتيه وأحشائه، وتلك اللامبالاة من المرأة والتي كانت تعتقد أنني أعرف كل شيء، فمدرستي عليّ الذهاب لها وحدي من أول يوم، و الـ''أندر كراوند'' عليّ التعود على استعماله وفهمه من شرحها السريع، وملابسي عليّ غسلها وحدي في الغسالات العامة، وعليّ حمل الفكة دائماً، وعدم اصطحاب ضيوف إلى غرفتي، والفطور بانتظام وفي الوقت المحدد، وعدم استهلاك الكثير من الماء، وإذا كنت أريد التأخر، وعدم تناول العشاء عليّ إخبارها قبل ثلاثة أيام، وإن جئت متأخراً فعليّ أن أمشي على أطراف أصابعي، ما كنت أشكو منه وخلال أسبوع كامل أنني لم أجد السكر على الطاولة، وكنت أخجل أن أسأل عنه، لقد عبثت بمطبخها بحثاً عن السكر فلم أجده، وظللت أتزعم ذلك الشاي الإنجليزي بدون سكر، وأنا الذي كنت استمتع بالحلاوة الزائدة، ولما طفح بي الكيل وعجزت خيلي من التفتيش في المطبخ، سألتها بصوت خافت لماذا لا تستعملون أنتم الإنجليز السكر مع الشاي؟ فردت باستغراب: ولكننا نستعمله يومياً، وهاهو أمامك، فجالت عيناي بسرعة على موجودات الطاولة، فلم أره، فأشارت إلى قطع بنية اللون، فخجلت أن أقول لها إن سكركم غير سكر العرب، تلك القطع البنية أول مرة أراها في حياتي، سكر غير أبيض!! لكنني فرحت كثيراً فقد كان الشاي بعد تلك المحادثة طيباً وكما كنت أشتهيه دائماً·