رحل الشاعر حبيب الصايغ، كما لو رحلت حقبة شعرية زمنية، أو قطعة أدبية جميلة، رحلت من الحياة الثقافية. أتذكر تماماً حين استضيف الراحل من قبل تلفاز أبوظبي، في أول لقاء أعرفه. يومها كنت طالباً بالمدرسة، وأدهشني اللقاء الشعري، والفضاء الأدبي. وقتها كنت أعكف على قراءة أدب المهجر.. لعلها حالة الرحيل، دائماً ما تعود بالذاكرة إلى السيرة الذاتية الأولى للراحل. فما أردت قوله في هذا السياق، مدخلاً للحديث عن الحقب الثقافية التي تصاعدت زمنياً ثم خفت صيتها، وحملت أسماء لمعت إلى يومنا. كانت حقبة الثمانينات والسبعينات وما بعدها، وما قبلهما من إرث ثقافي جميل. كنا نصنف الأسماء حسب الأجيال، حسب الحراك الثقافي، الذي كان يعبر بالساحة الثقافية نحو تألقها من حوارات وأماسي وندوات، امتدت علناً عبر الصحف، تلك المشاكسات الأدبية التي حضرت وأطفأها الزمن، وما تبعها من مناظرات ثقافية جميلة، ومحاور، كل حسب مدرسته الإبداعية.
وبهذا كانت الساحة الثقافية تتوهج، بل وتسلط ضوءها على نواحي الحياة المختلفة، متناغمة مع كثير من المواقف، خالقة جدلاً ثقافياً سواء بين أنماط الشعر أو أنماط السرد، أو النواحي المجتمعية التي هي في تماس مع التعليم والفنون وسائر ما تحمله الثقافة من شعلات ومضامين.
كانت الأجيال المبدعة حديثة الإبداع، أو الشابة في ذلك الوقت، حين تحاول أن تكتب، تصدمها الحقب المبدعة تلك، لا لشيء إلا لبريق الأسماء اللامعة، والتي لها هيمنة بالثقافة والصحافة، ولها بروزها الكبير الذي لا يضاهى. وهنا لا أتحدث عن الساحة الثقافية بالإمارات وحسب، وإنما في النسيج العربي والعالمي أيضاً، فكل حقبة لها رموزها المهيمنة، فلا يمكن مجاراتها، بل لا يمكن للصحافة أو المنابر الثقافية، أن تقبل بالمبدع أياً كان رصيده الإبداعي، ولن يضاهي حراك الكبار من الطبقة المثقفة، وبهذا تلاشت بعض الأصوات سريعاً، وبعض الكتابات توقفت أمام سطوة الرموز الكبيرة.
في زمننا الآني، في زمن ثورة التواصل المجتمعي، والتقنيات الحديثة التي طمست كثيراً من المعالم، وهذا ما جرد الحياة من الحقب الزمنية، صارت كتابات حرة تنبثق من محطات التواصل المجتمعي، وشكلت حقبة الثورة الرقمية روادها من المبدعين من شعراء وكتاب، ولم يقتصر الأمر على الرواد المصنفين، الذين كرستهم فكرة التحقيب الثقافي. هذا التحرر من النسيج السائد جعل الحياة الثقافية في حوار دائم ما بين الأجيال المثقفة، وكثير من الإصدارات تصدر دون دراسات ثقافية. جميل أن تعبر هذه الكتابات فضاء الساحات الثقافية، ولا تقف عند حدود رسمت مسبقاً، ولكن أن لا تكون المسارات الإبداعية الحديثة دون تأسيس أدبي وثقافي.