نهر الفولجا غارق بأسئلة موسكو، متخم بصور ذلك الذي سيجيء، وهو على موعد مع الفرح الثقافي، وعرس الكلمة، ووجوه العشاق، وهم يرفلون بمعاطف سبتمبر الزاهي.
هنا والطير يخفق بأجنحة البياض، وصلت صورتك يا حبيب الشعر، محملة بابتسامتك الطفولية، وعطر القصيدة التي تركتها ترسف ببوح الناي الحزين، وأنت المتجلي دوماً بحفاوة المعاني النبيلة، وأحلام الكبار، أنت المتوهج دوماً بقصيدتك، وأسئلتك الحامية تضرب أطنابها في وجدان الوجود، وما خبأه الوطن الجميل في الثنايا من فرح الرؤى.
في فضاء موسكو الواسع، اتسعت أسئلتي حولك، ولماذا في هذا الوقت بالذات تأتي النهاية السوداوية، لتعلن عن انفضاض السامر، وغياب القمر، وسقوط التفاحة من تحت جفنيك، لتبقى شجرة الحلم عارية من الحلم، ونبقى نحن سيدي، ننفض الفراغ ولا ثمر.
هل أذعنت سيدي للألم الفظيع، لتودع القصيدة فجأة، وترمي القلم في لحظة نحن فيها ما زلنا نتأمل صفحتك، ونتلو في ملامحك بوح التنوير، في عصر الإمارات الذهبي، في زمننا الزاهي، في تطلعاتنا التي تشبهك، وتشبه لون بياض الوطن. لا أدري في تلك الليلة وفي لحظة أن اغرورقت دمعة ما حولك وأنت تودع القلم، وتقول هكذا يكفي، هكذا تكتمل الصورة. ولكن يا حبيب، الشعر عندما أغمضت العينين، وسبلت الجفنين، كان هناك في الطرف الآخر من تضاريس القصيدة لم يزل يقول لنا: لن يصمت حبيب، ففي جعبة القصيدة ما تخبؤه، وتحتفظ بسلامه، ووئامه، وانسجامه. هنا في هذه الديار الشاسعة تنمو في أحشاء الكلمات، لغة مكسيم غور كي، كما هي لغة حبيب التي أنعمت علينا بفضاء يتسع للقارات، ويطوق وجدان الناس جميعاً، بشفافية المنجز الثقافي الذي حلم به حبيب.
وفي معرض كتاب موسكو السبتمبري، سوف يسأل غور كي، ويسأل ديستو فسكي، وتيشخوف، وتولستوي، عن غياب (العمدة) وعن فراغه الذي لن تملأه تغاريد كل النوارس، مهما رفعت من أغنيات، لأن للحبيب رونقه، وله أشواقه التي لن تحدها حدود ولن تقارعها حنجرة، أو تقاربها أشواق. واليوم نحن في هذا الرجيم نسأل عن نعيمنا، وكليم القصيدة الذي رفعت صحفه، وجفت أقلامه، ليبقى بحر الشعر بلا زعانف تحرك وجدان أمواجه، ولا ملح يضمد ما أبلاه الموت في وجداننا، وما سامنا به الفراق الأليم.