أربكني باستمرار، هكذا عرفته. بالنسبة لي كان صاحب حضور لطيف وصوت قوي، وذا نظرة حنونة من عيونه الجادة، وصاحب طرفة لاذعة من وجه صارم. ومنذ أن تعرفت عليه وحتى آخر لقاء معه كنت أتجنبه وأتعمد عدم إطالة الحديث في حضرته، إشفاقاً على نفسي من حالة الربكة التي تصنعها تلك التناقضات.
هناك أشخاص، يبثون في نفسك رهبة حقيقية، مهما بدوا بسطاء. هكذا كان حالي مع فقيدنا وأستاذنا حبيب الصايغ.
يا ترى.. أيهما أشد ألماً على النفس.. غياب الأحبة أم موتهم؟
المثير أننا نمارس الغياب عن من نحب بإرادة كاملة، بإتقان وتفنن في عرض قائمة لا تنتهي من الحجج الزائفة التي نضعها لأنفسنا مبررين سلوكاً، ندرك تماماً أنه فج، وأنه بقليل من الإصرار نستطيع تجنبه.
أما موت الأحبة فلا سلطة لنا عليه، وما أن يحدث نتجمد مسلوبي الإرادة، فارغي الفاه بكل بلاهة، مصدومين من مفاجأة اللحظة. عندما نغيب عن من نحب بإرادتنا الهزيلة، ثم يأتي الموت بكل جلاله مغيباً إياهم، نتعرى أمام أنفسنا لنكتشف قسوتنا على أنفسنا وعليهم، لتبدأ رحلة الندم، التي طالما سمعنا بها، وما زلنا نقوم بكل شيء يذهب بنا إليها.
عندما يرحلون.. نتألم من وجع الفقد، وندم التقصير، ولوعة الضياع.
عندما يرحلون.. نندم لأننا فوتنا صحبتهم الطيبة.
عندما يرحلون.. نحزن لأننا لم نسعدهم بفعل جميل يستحقونه، وكلمة شكر وامتنان تقديراً لما صنعوه.
عندما يرحلون.. نتألم من شكل الأمكنة دونهم، ومن سطحية الأمور بعدهم.
عندما يرحلون.. نفتقد أجزاءً من أنفسنا التي تكونت في حضرتهم.
عندما يرحلون.. يتركون خلفهم قصصاً حقيقية، سنحكيها عنهم كثيراً.
عندما يرحلون.. نتذكر نواياهم الطيبة التي لم تتحقق، لعل هناك من يلتقطها ويكمل المسير.
عندما يرحلون.. يجبروك على خفض صوتك، إجلالاً لغياب صوتهم.
***
غيبك الموت يا «حبيب» ولكنك ستبقى حاضراً.