من الأشياء الجميلة التي يحبها الإنسان في السفر، ليست فقط الأماكن السياحية ومراكز التسوق والمطاعم التقليدية والمتاحف، والتعرف على عادات وتقاليد الشعوب، هناك أشياء يعشقها محبو السفر، قد تكون صغيرة، ولا يهتم بها أحد غيرهم، فقد كنت لفترات غير بعيدة أجمع أشياء هي هوايات لأصدقاء، وليست لي، ولكنهم ورطوني في محبتها مع الوقت، أحدهم حبّب إلي جمع علب الكبريت الجديدة الخاصة بالمطاعم والفنادق، وصديق آخر كان يجبرني مشاطرته هوايته في جمع أقلام الفنادق وشركات الطيران والمعارض، لكن من هواياتي الخاصة، ومتابعاتي الدائمة في السفر، كان مشهد العصا في يد كبار السن، واللحى البيضاء التي تكسو صدورهم، تتبعتهم في كل مدن العالم، بحيث إن ما جمعته حتى اليوم يساوي كتابين مصورين، يذهبان بعيداً في الأمكنة، وعميقاً في الإنسان وجدلية الوقت.
في مدينة بكين كان هناك عجوز تسعيني تستطيع أن تحصر عدد ضلوعه المتماسكة، يتوكأ على عصا، تاركاً السنين تعد خطواته الباقية، وفي إسطنبول كان هناك عجوز من بقايا «باشاوات» زمان، بشنب معقوف، ولحية كثّة، وعصا فيها مهابة الغنى، وتلك البدلة المتأنقة والتي يحرص أن يفصلها عند «الترزي» العجوز نفسه، حتى مع الوقت أصبحا مثل صديقين حميمين، في غابات إندونيسيا لمحت شخصاً أقرب للسنجاب العجوز، يخرج من الغابة متوكئاً على عصا من شجيراتها الخضراء، يمشي حافياً، في إيطاليا ظفرت بشيخ عجوز لا تخطئ العين أناقته الإيطالية الواضحة، ولا يغيب عن الحس أنه كان بحاراً، وتقاعد، واستبدل شراعه بعصا تعرف بيت جاراته، وبيوتاً لنساء في مدن كثيرة، كانت مهنته تحتم عليه أن يزورهن، كلما رست سفينته على مرسى مدينة، تظل فيها نافذة وحيدة مضاءة، تستدعي غريباً، سيطرق الباب قريباً، كان هؤلاء الكبار في كل المدن، وتضيق بهم المساحة، لكن في مدن المغرب كانوا هم الأكثر، وكانوا جميعهم يشبهون ذلك «الشويخ» من أرض مكناس، ظل «الشيشتري» في قصيدته الصوفية، لكن ذاك العجوز الممتلئ في طنجة العالية والذي أدرك بحسه الشائب أن رجلاً يلاحقه، ولا ينوي به شراً، غير أنه يمكن أن يحصي سنوات عمره، وعليه أن يجرب عصاه تلك التي يهش بها عن طريقه، وله فيها مآرب أخرى، لذا رفعها في وجهي ولوح بها ثلاثاً، ضحكت خوفاً، وأرسلتها له كتلميذ نجيب، لكن كمصور أكثر نجابة قدرت أن اصطاد ثلاث لقطات جمعت فيها العصا والوجه الإنساني وتلك اللحية البيضاء المطمئنة، والتي كلها خير!