هنا في زاوية منسية من ضاحية المرقاب، جالسة أرتب فوضى وجودي وأفوض أمري لخدعة اللغة ولعبة الكلام. لعلني أبحث عن مدارجي في عتمة الضلال وظل روحي في رأفة الظلال. لا صخب الشوارع ولا ضجة العابرين. ولا مجرد الكلام فتنتي، بل حكمتي إذا حدوسي أيقنت بأنها نبوءتي أو أنها روح اللهب، ما من سبب.. ربما ظننت في لحظة وهمية أنني قد ابتكر السحاب والمطر ليروي عطش الورد والتراب. خديعة الظن هي، أن التراب والسحب بينهما مسافة افتراض، وليس بينهما منابع المحيط والرياح في غموضها والفصول في تعاقبها الرتيب. الآن في مكمني هنا معنية قليلاً بما يصل بين البحار في نشيجها إذ تلد السحاب فيهطل المطر، وما يرج المحيطات إذا ارتأت من نزق أو غضب أن تعلن الدمار وتهلك الإنسان والكائنات. فللطبيعة حكمتها، والجهل من مساوئ البشر. لكنني معنية كثيراً في هذه اللحظة الراحلة في نفق السنين، أن أكتب شهادتي على غرائب هذا الزمان، وغفلة الإنسان إذ يسقط في مكائد الإنسان! ولست معنية بتضاريس الغباء التي تعزل بلداً عن بلد. فكل كائن في شرائع الطبيعة كائن أينما ولد. وكل ما يفصل بين بشر وبشر محض غباء وضلال. كل ما يعنيني الآن أن أقبض هذه اللحظة بين يدي. كنت ظننت أنها جوهرة ثمينة فأحكمت قبضتي عليها فإذا اللحظة زئبق راودني عن ظله، وانسل ولم يترك سوى نقش باهت في صفحة العمر وسوى خط رهيف في دفتر النسيان، مثل ومض خاطف في عتمة الليل القصي، أو ومضة في غفوة الأيام!
كم كتبت وكتبت وظننت.. فلم أعثر على ما أشتهي. هل أنا امرأة أعصى من الكون العصي؟ أو أنا بعضي يراني هكذا ويراني البعض كمجهول خفي؟ ليس هذا النقش ما أردت الآن أن أدونه في صفحة المرقاب. إنه نبع خفي يدفق من خلايا الروح، أو مما اختزنته ذاكرة الأيام، كأنه طفل حبلت به الروح منذ زمان موغل في البعد أو في القرب، حانت لحظة الميلاد، فلم أقدر على كبح المخاض، فاندفق القول، لم يخضع لميزان، ولم يخرج على الميزان! كم ساعة قضيت كي أكتب هذه الأسطر القليلة؟
كم سنةً قضيت كي أجمع هذه الأحرف القليلة؟ كم فرحة رقصتها وعثرة كبوتها. كم دمعةً وضحكة وكتب قرأتها. كم أضأتُ واحترقتُ، فلم أجد بين يدي سوى هذا الذي بين يدي!