يدها اليسرى كمنجة، ويدها الأخرى قوسها. وشعرُها، إذا نامت الريح، فستانها. والأنامل لم تكن سوى، رقصةُ حبّات الندى على غصنها. كلما أرسلتْ في الكون لحناً، تهدّم جسرُ آهاتٍ وقامت جبالٌ من كريستالها. وأنا أخالها تعزف النغمات من وترٍ خفيفٍ إلى وترٍ نابضٍ، لكنها كانت تمارسُ نسج براعم الوقت الأليف في عيون من حولها. كنا وقوفاً نصفّق للألق الذي يتسرّب ضاجاً بالحياة ويغسل أرواحنا. وأذكر كانت تلك مجرد لحظة في محطة قطار، مجرد مساحة ضيقة لوقوف العابرين على خط الزمن وتنفسهم لجرعة من الموسيقى قبل ذهابهم في الانحدار. إلا أنني وقفت هناك الزمن كله. وبقيت منذ خمسين سنة أتبع النغمات الشاردة التي تقودني إليها. مرة في الراديو، حين يغصُّ مذيعُ الثرثرات فتحلُّ مكانه أغنية. ومرةً في تأملي لصوت الريح حين تمسحُ رأس شجرةٍ ويتناهى إلى سمعي حفيفها. وسوف يكتبُ عليّ أن أعيش العمر كله مفتّشاً عنها في عمق ذاتي، في القصائد الألف التي قرأتها منذ حبوت، ولم تُثر في القلب إلا حُزنهُ. وفي معاجم العشق التي أسلمتني إلى شرود الليل وغمز نجمته الساهرة.
كلّي بقايا، ونصف نطقي نداء اشتهاء لعينيها. أجوبُ الدروب والمنعرجات لا سعياً لرزقٍ، ولا توقاً لمغانم أو مدائح أو كنوزٍ، وإنما يجرّني حبلها السرّي من وطنٍ إلى وطن. وكأنني مربوط بوتر وصولها. لا أريد الفكاك من هذا القيد، بل مزيداً الغوص في غابة أقفاصها. ها أنا قصداً أتبعُ بلبل التيه، فلربما على مرجٍ ألتقي بأثرٍ لخطواتها. وها أنا كلما سمعتُ طرقاً على الباب، تيبّستُ صنماً وانتميت إلى جدارها. لكنها بعيدةٌ ولا تجيء، ربما تسبحُ الآن نبضاً في عروق القطارات. وربما كمنجتها الذهبية تصدحُ في زار أرواح جائعة لا أمل لشفائها.
أنا وهي، زمانان تقاطعا وافترقا في اتجاهين ضدين. أو لنقُل، فردتا نردٍ اجتمعتا في يدٍ مرتبكة، ثم انسكبتا على رقم الحظ نفسه للحظةٍ، وبعدها ضاعتا بين كفوفٍ كثيرة. وأنا لا أريدُ سوى أن تُصان سكينتي في رحابة عزفها. كأن أغمض عينين تعبتين، وأسلم لجام الروح إلى السرّ الذي هو نبعها. تُرى، لو أغرف البحر كلّه كي لا تغادر السفن، ولو ألوي سكك الحديد كلها باتجاه بيتي، هل ستقف القطارات كلها عند محطتي، وأراها وهي تنزل من حلمٍ قديمٍ، إلى حلمي الجديد؟