المخيلة في الشعر ركن أساسي من أركانه، لم يختلف على ذلك الشعراء والمفكرون في العصور القديمة والحديثة·· كان أرسطو في كتابه عن ''الشعر'' ومن بعده أفلاطون، يقولان بالمحاكاة، أي محاكاة الطبيعة من خلال المخيلة، وتبعهما ابن سينا والفارابي وسائر الفلاسفة العرب في وضع المخيلة أساساً في حدود الشعر، فاعتبره ابن سينا فناً قائماً بركنين متلازمين: المخيلة والوزن· وإذا كان الوزن تعريفاً وعناصر، قد خضع للتعديل والاجتهاد مع العصور الحديثة وبروز فن شعري جديد هو ''قصيدة النثر''، إلا أن المخيلة لم تغادر كثيراً حدودها بين القديم والجديد·· ولكنها اكتسحت فنوناً أخرى غير الشعر، من بينها فن الرواية·· بما في ذلك الرواية العلمية· لو قرأنا روايات القرون الوسطى، مثل ألف ليلة وليلة، ورواية دون كيخوتة لسرفانتس على سبيل المثال، لوجدنا المخيلة تقتحم حقل الحكايات الشعبية، وتدخل فيها الفنتازيا والمبالغات والتشويق، ما يجعل الغرابة أساس هذه الحكايات· ولكن المخيلة في الروايات الحديثة والمعاصرة شطح بها الروائيون شطحات واسعة ومتنوعة، وقدموا مروحة احتمالات وألواناً من الغرابة والمفاجآت، واقتحموا حقولاً لم تكن تخطر ببال بشر، فنافسوا بها الشعر منافسة قوية، إذ أنهم يمتلكون بالإضافة الى اللغة التي هي أساس الشعر، الأشخاص والحوادث والفضاء الروائي· إن تنوع السرد وتنوع الفضاء الروائي يقدمان احتمالات مفتوحة لألعاب المخيلة واختباراتها· وثمة فتوح روائية معاصرة في هذا المجال، بدأت لدى الروائيين الغربيين المعدودين، واستفاد منها الروائيون العرب الى حد كبير، وأضافوا إليها ما ينسجم مع خصوصياتهم وبيئاتهم· والسؤال يبقى: الى أين تقود مركبتك الروائية؟ ما قدرتك على الإقناع الروائي؟ إن السارد، على سبيل المثال، في رواية فولكنر ''وأنا أحتضر'' يتناوب الدور مع أمه، ويتغير معه الفضاء الروائي بتغير السارد· إن الروائيين، يذهبون، مثل كشافي المغاور، في رواية ''موبي ديك'' لهرمان ملفل، هو سارد ملتبس أو غير يقيني· يقول ملفل في البداية إنه غير متيقن من أن اسمه إسماعيل، وفي نهاية الرواية، حين يأتي صوت يقضي على المركب والسارد إسماعيل، تبدأ الحكاية على لسان سارد ميت، فكيف الميت يسرد ويروي؟ لو أضفنا لذلك مستويات التخييل ومستويات الزمن· فهناك الزمن الكرونولوجي (زمن الساعة) وهو غير مهم والزمن الروائي وهو الأساس· إنه زمن سيكولوجي· إنه لحظة يمططها الحكي أو يقودها الراوي كما يريد: من الخلف الى الأمام وبالعكس·· على الأرض أو في الفضاء كما لو هو يحيي آلة الزمان· بورخيس يروي حكاية طيار ضاع في الزمان مع طائرته·· هكذا تقرب المخيلة في الفن الروائي بين العلم والشعر وتبتكر لنفسها أريكة ملكية تجلس عليها بين الفنون