يحدث الصدام الحضاري بين الأمم والشعوب فيتحسسه الفرد لاحقاً كمحصلة، ويعيش تحولاته وتداعياته دون خصوصية لأن ثقله موزع على سطح بشري متسع تمثله الجماعة وتمتص أثره، فيما تقدم الثقافات المتصادمة للمثقف المتأمل المعذب بوعيه أمثولات على إمكان التلاقي بالآخر في منطقة لا تحسب في جغرافيا الصراع، ولا تنتهي عند نهاية الصلة المشتركة أو تعثرها بسبب السياسة والحروب المترجمة للمطامع والمطامح في الغالب· يقدم ابن بطوطة نموذجاً للتعبير عن هذا الصدام الثقافي حيث تغدو مفردات الحياة اليومية في الغربة اختباراً لإمكان التفاهم والعيش وفهم الآخر الذي يقيس المسافة بيننا وبينه بتقبلنا له حتى في الجزئيات الصغيرة التي قد لا تعني شيئاً كالطعام والعادات المنزلية والمواقيت ووصولاً إلى الطقوس المتوارثة التي تجسد المعتقدات وطرق التفكير· فالطنجي شمس الدين تجذبه الرحلة بسحر غامض ربما رمز إليه السندباد الذي يلوم في رحلاته السبع نفسه الأمارة بالأسفار، تقود الطنجي خطاه إلى أراضٍ يسميها بلاد الكفار كالهند التي شهد فيها وعاش معاينات لم تبرح مخيلته، ونقلها باندهاش، وتعجب يعكس عمق الصدمة الثقافية، فهو يحكي في غرائب الأسفار التي اختارها علي كنعان ووضع لها عناوين دالّة عن طقوس الحرق والغرق التحاقاً بالزوج المتوفى، وفي ذلك الطقس المصحوب بالغناء والرقص والاحتفال يلتمّ الناس من مسلمين وغيرهم للمشاهدة، ويوصي بعضهم المرأة الضحية بالسلام على الموتى من أهله وهي ترد عليهم ببشاشة· ويقول ''كنت في ذلك البلد أرى المرأة من كفار الهنود راكبة متزينة، والناس يتبعونها من مسلم وكافر، والأطبال والأبواق بين يديها، وإن كان ذلك في بلاد السلطان استأذنوا السلطان في إحراقها··'' كما يسجل في مدونة مشاهداته الفذة واقعة تضحية جماعية لثلاث نساء يحتفلن ثلاثة أيام قبل الحرق ثم تركب كل منهن فرساً وتمسك جوزة نارجيل تلعب بها ومرآة ترى فيها وجهها، وعندما يصلن إلى موضع النار يتقدمن بشجاعة تجعل إحداهن تزيح الستارة التي يضعها الرجال بينها وبين المحرقة مرددة كلاماً ينقل ابن بطوطة نصه بلسانهم ويترجمه فتقول: أبالنار تخوفونني؟ أنا أعلم أنها نار محرقة ثم ترمي نفسها في وسطها· وفي طقس آخر يلقي رجل نفسه في نهر الكنج ليخرجوه بعد موته ويحرقوه ويعيدوا رماده ثانية إلى الماء· يتلقى الطنجي واحدا من طقوس الحرق بانفعال يتسبب له في إغماء سريع ويكاد يسقط عن فرسه لولا أصحابه الذين تداركوه بالماء فغسلوا وجهه· وهو في رد فعله هذا يستجيب لوازع نفسي تتركه ثقافته التي ربي عليها ونشأ رغم تفهمه لثقافة أخرى لا ترى ما صوّره بدقة وبراعة أنه شيء غريب يوجب الغيبوبة والتقزز· لقد محت الثقافة في عنفوان حضورها الفوارق لتعكس تفهم الآخر وما يحف بوجوده من تقاليد وعادات تختصرها الثقافة وتؤطرها بالاحترام