أخذ الشيخ الصوفي العربي يرتجل العربية، ولا يريد أن يترجل، فالحماسة وسط المريدين كانت عالية، فغابت عنه حروف العلّة، كما غاب المعلول، وكاد ليلتها أن يستنوق الجمل في حضرته، فقلت في خاطري: الإنسان لا يدري غالباً أن هناك من يعد أخطاءه، ولا يدري به، وإن كان الآخر لا يريد أن يخطئه، ورغم ذلك كانت ليلة حافلة بالذكر وبطاقة النور، وبذلك الحبور الذي تخرج به، وصدرك يستقبل نسمات ليل وجد وتجل.
لا أدري.. ربما شغفي بقبور الأولياء الصالحين يعود للطفولة، ولذلك الضجيج العالي في الرأس، والأسئلة المتراكتة مثل طلق الرصاص، فقد شهدت طفولتي ومدينتي يحرسها قبر من قبور أولياء الله الصالحين، فقد كان في جانب العين «قبر الولي» وكان الأهالي يزورونه ويتبركون به، ويذبحون الذبائح عنده، قبل النفط، ويقيمون عنده النهار بطوله، وتكون تلك الساحة المحيطة به غاشية، وتتحول لبيع وشراء، كان ذلك المنظر في الصغر، والذي ما استطاع أن يبرح الذاكرة، جزءاً من متعة كبرت معي، وقبل عامين فكرت في عمل سينمائي عالمي يخص الموضوع، فصورت الجانب التسجيلي منه في مدن عدة، والتقيت أناساً عاصروا الفكرة، وبعضهم كان جزءاً منها، وحرصت على زيارات لأضرحة ومقامات وقبور للأتقياء في المدن العربية ومدن دول آسيا الوسطى وتركيا، حتى اتضح الموضوع من كل جوانبه، وبقي الجانب الروائي منه بحاجة لتكملة إنتاجية سينمائية، بعض الصور الطفولية نحملها معنا في مشوار الحياة، وتصبح حلماً، ولا نرتاح حتى تبصر النور.
من الزيارات الجميلة والتي لا تنسى، زيارة مدينة مولانا جلال الدين الرومي «قونية» التي تبعد حوالي سبعمائة كيلو متر عن إسطنبول في وسط جنوب الأناضول، كانت عاصمة السلاجقة، مساحتها تزيد على الأربعين ألف كيلو متر مربع، اشتهرت بمعركة «قونية» عام 1832م، حيث انتصر فيها الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي على الجيش العثماني، وبذا استقلت مصر والشام عن الإمبراطورية العثمانية، وفق اتفاقية «كوتاهية»، هي مدينة تاريخية وقديمة جداً، كان يلجأ لها رجال الدين ورسل المسيح وحوارييه مثل «بول وبرنابا» بعد اضطهادهما، مرّ عليها الروم والبيزنطيون والفرس والعرب المسلمون ثَمّ العثمانيون الأتراك، وأول من غير اسمها معرباً من «اكونيوم» إلى «قونية» مسعود الأول عام 1134م، ما يميز هذه المدينة غير سجادها التقليدي، هو وجود ضريح مولانا جلال الدين الرومي، الذي يقام له كل عام حضرة يؤمها من كل مكان في العالم في شهر ديسمبر لأسبوع، حيث تقام رقصات المولوية التي ترجع لمبدعيها صاحب كتاب «المثنوي».
في هذه المدينة تتجلى الأشياء، وتصبح قريبة من ضلوع الصدر، تتكشف لك أشياء، وتزيد من بصيرة الروح، ولا تخرج منها، إلا وجسدك طاهر مثل ثوب أبيض كالكفن.