ماذا نفعل بكل هذا العصف والحروب والدمار الذي يطوح بنا؟
ماذا نفعل بكل هذا الغضب الذي يمزق أعصابنا، هذه الأوجاع، هذا الحزن العاجز، هذا الاحتدام المكبوت بالصمت، هذا القهر المستبد، هذه الآلام الوحشية التي تفتك بنا والتي تنغل في الروح والذاكرة والخلايا؟
ماذا نفعل.. والكتابة جرح ينفتح على جرح ولا يداوي جروحنا. والكتابة إيغال في عمق العجز، في تفتيت إرادة الفعل إلى شظايا نسميها الكلمات كي نستريح.
هل الكتابة راحة الفكر، راحة النفس أم أنها عصيان السكون وطعنة في الصمت؟
هل نستريح، هل نهدأ، هل نرخي توتر اللحظة، هل نرقد بعدها مطمئنين إلى أحلامنا الجديدة؟ هل نكتب كي يقف الزمن، كي نصطاد لحظة الوجود في حبرنا، كي نمعن في الوهم، كي نتوهم الإرادة، أم نتوهم الحياة، حين الحياة تشبه موتاً مؤجلاً للموت!
هل نحن فتيل اللحظة، نتقد كي نبصر ما حولنا في عتم كثيف، ومرارة مستشرية؟
أين تأخذنا خطى العمى لنكون كأننا لم نكن.. كأننا لم نضج بحيوات كثيرة، لم ننسج الأحلام، ونخصب الصلصال، لم نبن بيتاً ولم نرفع منارة ولم نقتبس من سنا الكون حكمة لغاياتنا؟ هل نصرخ مثل أم على وليدها.. على شهيدها.. على نبض قلبها، وعمرها. ويح قلبها من اغتيال الابن ومن حزنها! هل كلنا هكذا أم وحدنا هكذا؟
وهل وحدنا يشدنا حبل انتظار لا ينتهي.. لا ينتهي؟
كثيف هذا الغضب، كثيف هذا الوجع، كثيف هذا الحزن. من ألقى علينا ظلال الكهوف وألقى بنا في كوة النسيان؟ قُتلنا.. قُتلنا.. كل يوم نُقتل دون نأمة. نتضرج بدمنا وليس من أصبع يضيء. هل دمنا غبار وموتنا هباء؟ إلى أين يمضون بنا ونحن في عجزنا نمضي إلى المجهول! أي الممالك سوى الجحيم، أي المسالك سوى المتاه. أي المهاوي سوى الردى! كأننا غيم في سطوة الريح لا مطر يبل الظمأ ولا ندى يرف على الشجر. هل نحن أحياء وهذه هي الحياة؟ أم أننا الأشباح هائمة بلا ظل ولا مأوى. وما علينا سوى الجلوس في رحاب الصمت. فللصمت مذاق حلو حين تحيط بنا ضجة الجموع ولغط الكلام. وله مذاق مر، حين لا يحيط بنا سوى وحشة الصمت ووحدة الغياب. الصمت مطلب الشاعر والمبدع، للتوحد بالذات واستنهاض ذاكرتها، وإطلاق حرية خيالها، كي تبدع خارج العادي والمألوف وتؤكد اختلافها وتفردها. في العزلة يخفت الظاهر وتنهض ضجة الأعماق وتبحر النفس بمجداف التأمل لتسبر كينونة الوجود، وتفسر ما ينغلق تفسيره في صخب الضجيج. تدرك أن ما يحيط بها يحيق بها، يأسرها، يقيدها برسن الوقائع الوحشية. فلتهدأ الذات إذن في رحاب الصمت والعزلة!