عندما وقف مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، ليلقي كلمته العصماء في حضرة أعضاء الأمم المتحدة، وأمام مرأى ومسمع كل شعوب العالم، ومن الجهات الأربع. في ذلك المشهد الأليم، وهذا الكائن البشري يصب جام غضبه على الهيئة التي اعترفت بكيانه النكرة، ويسخر ويستهزئ، ويأتي بترهات تاريخية، من صنع خيال منظري الصهيونية العالمية، ومن ورائهم النورانية، ويؤكد بثقه وثبات، أن القدس إسرائيلية ولن تكون غير ذلك، وأن اجتماعات الأمم المتحدة لن تغير من الواقع شيئاً. حقاً لن تغير من واقع الذهنية الإسرائيلية لأنها الأقوى، ولأن الطرف العربي برمته هو الأضعف، وهذا ما يجعل إسرائيل تضرب كل القرارات الدولية عرض الحائط، وتحرق أوراق التاريخ نيران قوتها العسكرية، وتلتهم الجغرافيا بأنياب العدوانية الأزلية، وتتجاوز حدود المشاعر الإنسانية وحرمة المقدسات، وقد قالها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيجِن (إن العالم لا يستمع إلا إلى طرقات الأخف الثقيلة). ها هو مندوب إسرائيل بالصوت العالي يصرخ ويشرخ الأسماع، ويمضي بهدوء متبختراً متحدياً، وغير مبالٍ بتبعات ما قذفه من جحيم في وجوه أعضاء الجمعية، ولكن هل هذا هو آخر الجولات والصولات؟ فالشيء الذي لم يعرفه مندوب إسرائيل ومن أرسله إلى ذلك المكان، أن مسألة القدس تتجاوز القوة العسكرية، وكذلك السرد التاريخي الزيف، لأن القدس بالنسبة للمسلمين والمسيحيين لا تسكن الجغرافيا حتى يعبث بها هذا الجيش الجرّار، وإنما هي تسكن في الوجدان، هي في هذا العمق الإنساني، ولا أحد يراهن على الوضع العربي والإسلامي، اليوم، ونحن نعرف وإسرائيل تعرف والعالم يعرف، أن الظرف العربي بما صاحبه من ضربات إرهابية أرهقت وانتهكت وزعزعت، ونحّت الدور العربي عن محور القضية، ولكن ما من قوة ولا حضارة تمددت على حساب الحضارات الأخرى إلا وقضت نحبها وزالت عن الوجود، فأين الحضارة الرومانية والعثمانية وغيرهما من الحضارات؟ إنها ذهبت واستنبت التاريخ حضارات غيرهما، أفضل بقاء. إسرائيل لن تبقى قوية، والعرب لن يبقوا في آخر عربات القطار، والقدس التي تسكن الوجدان الإنساني سوف تنهض وسوف تنمو أشجارها الحرة، ولن تمنع نموها، دبابة، ولا مدفع، ولا كذبة تاريخية، ملفقة، وهي هكذا الحقائق، مهما كانت صعوبتها، لكنها تبقى جلية وراسخة في وجدان الناس، وخير كتاب في الزمان هو هذا القلب، هو هذا الصندوق الذهبي الذي لا يبور، ولا يضيع مخزونه مهما اشتدت الرياح وتنكأت الجراح.. فالقدس لنا.