لماذا يكون المساء ثقيلا كدمعة الفجيعة؟ لماذا يعبؤني الليل بالحزن، ويملؤني بطعم مرير كقهوتي المرة المشتهاة؟ لماذا يسوّد لون الثواني، تصير الدقائق وحشا يدّق بقبضته البربرية إقفال صمتي، ويصير القتال حوانيت موتنا؟ وحين أفتح شاشة التلفزيون مساء تفجعني أخبار الوحشية والقتل والدمار في كل أرجاء العالم فأهرب من أخبارها ومشاهدها إلى قناة لا تبث سوى برامج الطبيعة والأسفار والعلوم.. وفي الصباح أشتري من بين أكوام الجرائد التي تعج بها البقالات والطرقات جريدة، فأقرأ فيها أننا نموت على أرصفة الوحشية والضلالة كل يومٍ. فألغي الجريدة وأبحث عن كتاب بين الكتب التي تكدست على أرفف السنوات، أقلبه، وأبحث عن جملة مخبأة بين توقي وسطر وراء السطور. فيسقط مني الكتاب كرماد يعود إلى المدفأة! أقول إذن مشرط الحبر. وأعرف أن الجراح تنزُّ، ولكنني أدفع المشرط حتى النخاع، فيفجعني الوجع المستقر في خلايا القلب، فأعرف أني أعجز من مشرط بارد ينام على الطاولة! لماذا إذن أخدع نفسي بأن الصباح جميل، وأن النهار لغو العصافير، وأن المحبة مرسىً أجدف نحوه، وأن البحار تنز الدموع أسى على شواطئها حتى كانت كسكرٍ منثور، فاستحالت غثاً كالرماد على اليابسة؟ مساء رأيت فراشة حطت على فراشي. وحين أدهشني لونها الجميل، حاولت أن أمسكها لكنها استعصت على قبضتي، ففتحت نافذة الغرفة وطارت إلى الفضاء مطمئنة. فتساءلت: لماذا حطت فراشة الضوء على فراشي؟ هل أنني الضوء والفراشة الأسير؟ أم أنها حائرة مثلي، تطير في المتاه لا أفق يحضنها ولا سرير؟ لماذا تصير خلايا دمنا ونعمة وجودنا في الحياة ساحة للحروب؟ وماذا اقترف الأطفال من خطيئة حتى يصير ذبحهم تعبيراً عن شهوة الدمار؟ وأية أفكار عدمية تغرس في عقول الشباب، فيلتفون بأحزمة ناسفة ليحولوا حياتهم وحياة الآخرين إلى العدم، دون أن يدركوا أن بين العويل وصوت الرصاص بساحات أرواحنا يدقُّ صدىً خافتا للمحبة وكفا صغيراً يلوِّح أجراسه للسلام؟ أذكر أني بكيتُ على كل من دمرتهم الحروب التي لم تنته عبر كل السنين. وها أنا دوما تسيل دموعي حزنا على كل مدن دمرت. وكل الذين قتلوا دون أية جريرة سوى أنهم وجدوا فيها! وأبكي على كل الأحبة، وكل الشوارع، وكل السنين التي نسجت ذاكرتي. وأبكي لكل الجراح التي تنزُّ بها الأرض وما زلت أبكي وأبكي! وها هو مشرط الحزن يذبحني، ودمي يدفقُ هذا لكلام قروحا. فهل يوقف النوم نزفي؟ ويشفي الجواب جرح سؤالي؟