في حياة المرء محطات، يتعرف فيها على أناس من مشارب شتى، ويتعامل معهم، بعضهم يمر سريعاً دونما أثر يذكر، وبعضهم الآخر يترك بصماته ولمسات من إبداعاته، فهم باقون وإن رحلوا، وقد كان الشاعر والأديب الراحل فضل النقيب الذي وروي الثرى في أبوظبي أمس الأول من هذه النوعية من الرجال.
كنت في بداية حياتي المهنية عندما عدت من مهمة عمل بالقاهرة، وكتبت مقالاً للنشر في “واحة الاتحاد” التي كانت زاوية ثابتة في الصفحة الأخيرة من “الاتحاد”، وقد كان عن انطباعاتي حول رحلتي الأولى لأرض الكنانة. ووجدته منشوراً بعد أيام في تلك الزاوية، ولكن بلمسات عرفت فيما بعد أنها لمراجع الصفحة وقتها الشاعر والأديب فضل النقيب، وكانت فاتحة علاقة عمل تحولت لصداقة كنت أتعلم منها الكثير يومياً، خاصة أنني اقتحمت مجال الكتابة الصحفية من دون إعداد أو تأهيل مسبق.
وذات مرة أُوفدت في مهمة عمل. وكانت المرة الأولى التي أزور فيها صنعاء، ووجدته هناك، وجعل من آماسي مجموعتنا الصحفية لحظات جميلة مع الشعر والتاريخ والفن، وتحول إلى دليل سياحي للمجموعة، وقد كانت تضم كذلك مستشرقين، انبهروا لتدفق معلوماته عن تاريخ “ازال”، والعشق الذي يتحدث به عن مكامن جمال “أرض الجنتين” وحضارة بلقيس وسبأ. وكانوا يقفون مبهورين بأسلوب سرده وطريقة عرضه لحقائق تاريخية، وكأنهم يسمعونها لأول مرة.
كنت أغبطه على كل تلك القدرة على تطويع اليراع ليسطر مقالات جميلة في زاويته اليومية في الاتحاد” آفاق”، والتي كانت بحق آفاقاً نبحر فيها نحو بحار شتى من ألوان المعرفة والتجارب الإنسانية. وأغبطه أيضاً على َنفَس الشاعر وعشق الحرف والجمال وروح البذل والإيثار. كانت الكتابة عشقه الكبير الذي لم يتخل عنه، حتى وهو في حجرته الصغيرة بمستشفى مدينة خليفة الطبية في سنواته الأخيرة، فالقلب الكبير المترع بالحب قد تعب، والجسم وهن، ليبدأ رحلاته طلباً للعلاج في محطاته المتعددة، من تايلاند إلى الصين وألمانيا حتى أسلم الروح لبارئها هناك في برلين.
ولعل من المفارقات أن مدونته التي أنشاها نجله على الشبكة العنكبوتية لجمع أعمال أبيه، حملت مقاله الأخير وكان عن المرض والموت، وقال فيه “أقسى من تجربة الموت في الحياة وجهها الآخر، وهي تجربة الحياة في الموت الذي يسامر الإنسان في الهزيع الأخير، ويسايره كظله، ولا يملك سوى صداقته، وإن كره”، واستعان بأبيات للشاعر السعودي غازي القصيبي، وكان يحرص رحمه الله على تضمين مقالاته أبياتاً من شعره أو شعر غيره من الشعراء، تخدم المقال. وفي تلك الأبيات يقول القصيبي:

هذي حديقة عمري في الغروب كما رأيت مرعى خريف جائع ضارِ
الطير هاجر والأغصان شاحبة والورد أطرق يبكي عهد آذار
لا تتبعيني دعيني واقرئي كتبي فبين أوراقها تلقاك أخباري
وإن مضيت فقولي لم يكن بطلاً وكان يمزج أطواراً بأطوار.



رحم الله أبا خالد، وأسكنه فسيح جناته، وألهم آله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون.



ali.alamodi@admedia.ae