في تناقل وتبادل وطرح الأفكار، وفي مسألة النقاشات البينية والجماعية، هناك مشكلة أو إشكالية في الحقيقة، فهناك من لا يتقبل الاختلاف معه في الرأي، وهناك من يعتقد أن كون فكرته صحيحة من وجهة نظره يكفي ليراها الجميع بنفس التقييم ويؤمنوا بها دون نقاش، لذلك يستغرب من الجدل حولها، ثم يغضب إذا طال، ثم ينسحب إذا اشتد، ثم يختفي تماماً إذا قيل له إن فكرتك صحيحة من وجهة نظرك أنت فقط.
وهناك من يضغط بأدوات القوة التي يمتلكها في حيز النقاش الذي يدور، سواء تجسد هذا الحيز في الأصدقاء أو الأسرة، أو مرؤسيه في العمل، بمعنى أن الأم أحياناً أو الأب أو الأخ الأكبر أو المدير في العمل، قد يلجأون إلى ابتزازك نفسياً بدالتهم عليك أومكانتهم عندك، كي تتنازل عن فكرتك أو موقفك لأجلهم مثلاً، أو أن تتبنى موقفهم باعتبار أن ما يتمتعون به من خبرة حياتية أو تجربة غنية تجعل ما يقولونه هو الأصوب والأجدر بالاتباع، فلا أحد منهم يتصور أنه من الممكن أن تكون فكرته خاطئة، هذا ما يسميه المفكرون: مزاعم امتلاك الحقيقة.
لا أحد يمتلك الحقيقة، أو على الأقل يمتلكها كاملة، حتى آباؤنا ومديرونا وأصدقاؤنا وكتابنا، قد امتلكوا فرصة العيش في زمن آخر، ونعمة العيش لسنوات أكثر منا، رحلوا إلى أماكن أبعد وقابلوا أناساً مختلفين، قرؤوا أكثر، وشاهدوا مالم يتأت لنا أن نشاهده، كل ذلك منحهم مزيداً من المعرفة الإنسانية، ولكن ليس كل المعرفة بالتأكيد، هؤلاء نستمع إليهم، نحترم تجاربهم، ونستفيد مما لديهم فربما لن تمنحنا الحياة الفرصة نفسها التي منحتها لهم، لكن كل ذلك لا يعني مصادرة رأينا أو إلغاء كينونتنا الإنسانية.
يعتقد بعض “الكبار” وحتى بعض “الصغار” حين يناقشونك في بعض المفاهيم والرؤى المختلفة والقابلة للاختلاف بينك وبينهم أن عليك أن تقتنع بما يقولون مباشرة وباستسلام وامتنان، على اعتبار امتلاكهم لأدوات المعرفة العميقة والكثيرة التي لم تمتلكها أنت، فإذا اعترضت أو امتنعت، أصابتهم حالة من الصدمة، فمن أنت لتعترض؟ ومن أنت لتقف في وجههم؟، ومن أنت حتى لا تتبعهم كالتلميذ الشاطر بمنتهى التأدب؟ لم يعرفوا بعد أن زمان التلاميذ الشطار قد انتهى!
التساؤل حول من تكون لتعترض على البعض، أو من تكون لتقف في مواجهة أفكارهم، أو من تكون لتفكر في أن تصبح مكانهم، أو من تكون لتحاورهم هم الأساتذة والمفكرون الكبار، الذين قرؤوا كتباً باللغتين، وناقشوا أدباء ومثقفين من بلدان كثيرة، وعليه فقد امتلكوا عين اليقين، وليس لك حق مناقشتهم، إن الذين يقيمون أنفسهم بكل هذه الفوقية على الآخرين يفترض بهم ويحق لهم أن يبنوا أبراجهم بعيداً ويجلسوا في قممها ليرتاحوا من إزعاج الأسئلة، فالزمن القادم هو زمن الأسئلة المزعجة على ما يبدو.
في تراثنا العربي والإسلامي، يقال إن اختلاف الأئمة رحمة، وإن الرأي عند كبير الفقهاء صحيح يحتمل الخطأ ورأي مخالفيه خطأ يحتمل الصواب، وأرى في الإطلالة من هذه النافذة الفسيحة شيئاً كثيراً من الرحمة فعلاً.


ayya-222@hotmail.com