إنّ الذي يُنتج الحيزَ الأدبيّ (الفضاء باصطلاح بعض زملائنا النقاد العرب) ويملأ فراغه إنّما هو اللّغة. وركْحاً على هذا التّأسيس، فإنّ اللّغة ليست مجرّدَ أداةٍ لِمَلْءِ فراغ الحيز فحسب؛ ولكنّها، بطبيعة وظيفتها المتسلّطة من الوجهتين التوصيليّة والجماليّة معاًً تمثّل، في منظورنا، قوّة السّلطة المعنويّة في هذا المقام؛ إلاّ أنّ موريس بلانْشو يزعم غير ذلك حين يرى أنّ اللّغة ليست سلطةً وما ينبغي لها، أي أنّها ليست سلطة لزُخْرُفِ القول. فليست هذه اللّغة متفرّغة لنا، ونحن لا نمتلك من أمرها شيئاً. فهي ليست اللّغة التي أتحدّث بها أبداً. إنّي، من خلالها، لا أقول شيئاً أبداً، ولا أخاطبك بها أبداً، ولا أسألك بها أبداً! فكلّ هذه الأشكالِ هي سلبيّةٌ لوظيفة اللّغة بالقياس إلى الحيز الأدبيّ الذي تنجزه وترسمه بصماتُها اللّفظيّة. غير أنّ هذا السلب، فيما يزعم موريس بلانشو أيضاً، يواري، فقط، أنّ كلّ ما في هذه اللّغة من نفْي يرتدّ إلى الإثبات. وإذن، فما يُنفَى من الفعل، يعود إلى الثبوت. إنّ اللّغة تتحدّث الغيابَ. غير أنّها حيث لا تتحدّث، فهي تكون بعدُ قد تحدّثتْ! فهي ليست خرساء، لأنّ الصمت فيها يتحدّث إلى نفسه. فكما أنّ الأدب مسكون بالحيز، أو يسكن الحيز، وذلك من حيث قدرتُه على وصف الأماكن ورسْمها إمّا بالتّبْشيع والتّقبيح، وإمّا بالتجميل والتّحسين، وإمّا بالقيام على الحياد حيث الأدبُ ليس إلاّ طرقاتٍ وأسواقاً وودياناً وجبالاً وروابِيَ وسهولاً وأشجاراً وغاباتٍ وأفضيةً سحيقة وآفاقاً وسِيعةً: فإنّ اللّغة هي أيضاً مسكونة بالحيز، أو تسكن الحيز، أو أنّ الحيز يسكنها. فالحيز الأدبيّ العامّ حيز مركّب، مصنوع، أو مُنْتَهىً من رسْمه؛ في حين أنّ حيز اللّغة بسيط، أو جزئيّ، هو مجرّد مشروع حيز... فإذا كتب كاتب لفظة “الغابة” وحدها، فإنّ الحيز يبدو بارزَ المعالم، ولكنّه يظلّ غير مصنوع، ولا يؤثّر شيئاً في النّفس: فما بال هذه الغابة؟ أهي تحترق؟ أم هي تخضَارُّ وتَنْضُرُ؟ أم هي ماذا؟... وإذن، فهذه اللّفظة المسكونة بالحيز محتاجةٌ إلى أن تكتمل دلالتها الحيزيّة ليصبح الحيز ذا وظيفة جماليّة أو غير جماليّة في الكلام، فيقول الكاتب مثلاً: “ما أجملَ هذه الغابة، وما أوسع أطرافها، وما أشدّ اخضرارَ أشجارِها...”. هنا انتقل الحيز من البسيط إلى المركّب، ومن اللاّدَالّ، إلى الدّالّ، ومن المفرد إلى المركّب، ومن الإبهام إلى الوضوح... إنّ هناك حيّزيّةً ماثلة في اللّغة يطلق عليها جيرار جينات “الحيزيّة البدائيّة، أو الأوّليّة”، وهي ليست إلاّ اللّغةَ نفسَها. ذلك بأنّ هذه اللّغة كثيراً ما تبدو قادرة على التعبير عن العَلاقات الحيزيّة، أكثر من التعبير عن أيّ نوع آخر من العَلاقة، ممّا يؤهّلها إلى معالجة كلّ الأشياء تحت مفهوم الحيز؛ فهي إذن قادرة على أن تُحَيِّزَ كلّ شيء ولا حرج. وهذه المسألة هي أرحَبُ مِنْ أن يسَعَها هذا العمود...