طبيعة الصحراء الحارّة، هي التي أملت في جزيرة العرب، على العرب القدماء عبارة “برّد الله عينيك” أو “برّد الله قلبك”... فهل نجد العبارة نفسها في الأماكن الباردة أو المتجمدة من الكرة الأرضية؟ اللغة بنت الجغرافيا.. ولعل ديجول بالغ حين رأى التاريخ بكامله ابن الجغرافيا.. ماذا نفعل بالتطور البشري وفعل الإنسان بالطبيعة؟ ولماذا، على رحابة الأرض وفسحاتها، يبحثون عن أرض جديدة في المريخ أو الزهرة؟ يرى الشيخ العلايلي، رحمه الله، أن الإنسان غنّى قبل أن يتكلم. ولا ريب في أنّ الشيخ لم يرافق الإنسان الأول ليقرر أنّ هذا الإنسان بدأ بالغناء قبل أن ينتقل الى الكلمات والجُمل. ولكنه راقب الطفل وهو في السرير أو وهو يحبو... إنه ينغّم حاجاته بأصوات، يومئ، ولا يتكلم. هذه هي مرحلة “دادا” التي اشتق منها تريستان تزارا في فرنسا اسم المدرسة “الدادائية” في التعبير الشعري السابق على السريالية.. إذن، وبحكم التطور الطبيعي للإنسان، الغناء سابق على الكلام.. والغنائية في أصل تركيب الإنسان والشعر. لكنه بين “دادا” الإنسان الأول واليوم، قطعت الكلمات رحلة طويلة وصعبة ومعقدة، وانتقلت من صفّ الكلمات الى صف اللغة، ومن صف اللغة الى صف التجريد والرمز.. وفتحت لنفسها الآفاق التي يُعْرف أولها (وقد لا يعرف) في الغابات والكهوف والشعوب البدائية، ولا يعرف آخرها في رموز علوم الفضاء والإنترنت واللغات الرقمية المعاصرة. ولم تعد المسألة لتقف عند مفارقة: ماذا نفعل ببرّد الله عينيك، في القطب المتجمد أو البلاد الباردة، بل صارت المسألة في دخول اللغة في سباق مع الأزمنة المعاصرة والعلاقة بين لغة العلم والتكنولوجيا المرمزة الإنشائية والرقمية، ولغة الشعر والفن والرواية، الحلمية والسحرية.. في قول منسوب لبيكاسو، رائد المدرسة التكعيبية ومن ثم السريالية في الرسم، حين سئل عن السبب في تطعيج أشكاله وتشويه الأعضاء والكيانات السوية للأجسام والوجوه البشرية، قال: إن الحرب فعلت في نفسه ما فعلته القنبلة الهيدروجينية في هيروشيما. والحديث شجون، والمتعة في الحديث، والعبرة لمن يعتبر. جاءوا لأحد خلفاء بني أمية بشاعر من البادية، يريد أن يمدحه فقال: “أنت كالكلب في الحفاظ على الودّ وكالتيس في قراع الخطوب”. فانتفضت الحاشية، فهدأها الخليفة وقال: هو يمدح من خلال بيئته حيث الوفاء للكلب، والتيس للنطاح.. انقلوه الى القصر ليعيش فيه الرفاهية. تقول الحكاية إنهم وضعوه عاماً في جمال العيش ورفاهته، وحين عاد في العام التالي ليمدح الخليفة قال: “عيون المها بين الرصافة والجسرِ جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري” نعم: إن هذه الـ “من حيث أدري ولا أدري” عليها المعوّل في نقلة اللغة.