من البديهي، أن نتذكر ونستحضر بإلحاح، كل ما يمت بصلة إلى الأمطار والمياه، الخضرة الطاغية الكثيفة، واحات النخيل والأشجار الأخرى وذلك الفلج الذي يجري متدفقاً في غياهبها المخصبْة على مدار العام.. نستحضر المساحات الخضراء في الذاكرة التي مهما كان حجمها الواقعي في بلاد الذاكرة تلك، تستحيل إلى أكوان مليئة بالنجوم والمجراّت السائرة في سماواتها. نتذكر ونستحضر، حين تشطُّ الأصياف اللاهبة، مرتطمين ليلَ نهارَ بصخورها ورياحها القاسية، وذلك الصمت المطبق مع سُحب الرطوبة التي تطبق على الفضاء والحياة كأنما سينفجر العالم بكامل ثقله بعد قليل.. تجود الذاكرة بهداياها في مثل هذه الأوقات: واحات النخيل المزهرة بين تلك الاطواد التي كأنما قُدَّت من أساطير الأقدمين وأزمنة الطوفان.. يأخذ المشهد أبعاد الدهشة والبراءة الأولى في مثل ذلك المكان البالغ الفرادة، وهو يلتفُّ بأشجاره المتنوعة، بينابيع جباله في ليل شديد السواد، أو في أصباحه ونهاراته، وثمة النسيم الحدريّ (كوس حدرا) يحرك هذا الكون الساجي في الدِعة والسبات والأحلام. من (سرور) ذلك الشريط الملتحف بجناته الوارفة بالطفولة والمياه التي كنا نسبح فيها مع الضفادع والسمك الصغير والملائكة، وحتى الشياطين وقد استحالوا إلى أخوة أشقياء مشاكسين بلطف، قبل أن تتجسّد فيهم رغبة هدم العالم وتدميره. من (سرور) عبر وادي (سمائل) المعشب على دورة الأعوام، حتى بلدة (هصّاص) التي تسكن الأحلام أكثر مما تسكن الواقع فهي بلدة صغيرة شبه متوارية على منحدرات الشِعاب والأودية.. تنزل عليّ في هذه اللحظة الصيفيّة، لأتذكر (الجح والبطيخ) وأتذكر كرم أهلها الذين لم أعد استطيع تذكر سحناتهم بالتأكيد ولا أعرف إن كانت هذه البلدة ما زالت تحتفظ بذلك الكنز الثمين من تلك الفاكهة الصيفيّة التي لا يمكن مقارنة لذة طعمها، عبر تراكم السنين، أتذكره مع كل حضور لهذه الفاكهة الجميلة وكأنه المثل الجمالي الأصل لهذه الشجرة في الريحة والطعم والشكل.. قرية أخرى تحضرني اللحظة، في الجهة الأخرى من الوادي.. نأتيها من سرور، عبر أقواس الجبال حتى نصل إليها، غارقة بين الفجاج الصخريّة، أية جمال وخضرة ونعيم، هي قرية (قيقا). كان الوالد رحمه الله، يأخذنا باستمرار إليها، وبجانب طيبة أهلها وكرمهم الذي يصل حدَّ الخرافة على جاري نمط السلوك العماني في تاريخه، أتذكر (التين) الخاصيّة الابداعيّة لطبيعة تلك القرية التي من النادر أن نجد لها مثيلاً. فليس هناك في عمان من قرية أو مدينة فيها تلك الكميّة من التين الذي لم أذق ما يقاربه في الطعم وجمال الشكل، حتى حين أكون في جبال لبنان وسوريّة، على كل تلك التربة الخصبة والحقول الملتفة، أقول لنفسي: إنه ليس مثل تين (قيقا) القادم من قرية من قرى الجنان اللامرئيّة. في مثل هذه الأوقات اللاهبة في طقسها وسلوكها، نحاول أن نتذكر مشاهد ولقطات من أماكن الذاكرة التي أضحت نائية وعصيّة. نوع من عزاء وفسحة حلميّة وطفولة. فحين تشحُّ السماء بالغيوم الواقعيّة، تجود الذاكرة والمخيّلة، ربما بما هو أكثر جمالاً واستدراراً للحياة والأمل الممطر الخصيب.