يميل البعض من المشتغلين في الثقافة وكذلك في السياسة إلى خلط السياسي بالثقافي، خاصة في ظل الفوضى السياسية والاجتماعية التي يشهدها الشرق الأوسط تحديدا، حيث تداخلت المفاهيم والرؤى بين السياسي والديني وبين الثقافي الإبداعي (الموسيقى والأدب والتشكيل والمسرح والسينما...).
وفي ذلك ما ينم عن جهل لمعنى القوى الناعمة في الحراك الأممي، باعتقاد البعض ضرورة مزج الثقافي في السياسي لتجميل صورة البلدان، ولكن في الحقيقة لا يمكن توجيه الدور الثقافي الإبداعي إلا نحو البناء الاجتماعي وتطوير دوره في التغيير، وليس جرّه في متاهات البيانات السياسية والاستعراض السياسي.
نعم هناك دور للثقافة الإبداعية في المجتمعات تجاه القضايا المستعصية في الواقع العربي من إرهاب وتشدد وعنصرية وإقصاء وعداء أيديولوجي؛ نعم للثقافة فعل مؤثر لتغيير هذا الواقع الكئيب في المشهد الشرق أوسطي، ولكن كيف؟
من أدوار المبدع كقوة ناعمة تتمثل في البناء من خلال تكريس الإبداع والجمال، تكريس السلام والمحبة والتسامح عبر المنتج الإبداعي الذي يأتي من المبدع أولا؛ والمؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية معاً وذلك ثانياً. أي أن يكون دور المؤسسات الثقافية في تعميم وإشاعة الجمال في المجتمعات عبر الحضور الدائم داخل الأسرة والمدرسة، والعمل والشارع العام، داخل المجتمع كله.
فعندما نهمُّ أو نتبنى بصدق العمل التوعوي بهدف زعزعة الأساسات وتغيير واقع أصبح قديماً ولم يعد مواكباً العصر والتطورات الكبيرة التي شهدتها الحياة، لا بد من البدء في البناء من نقطة الصفر، حيث لا تغيير يمكن أن يحدث أثراً إذا كان الخطاب فوقياً لا يراعي أو يعير الأفكار القديمة المتشبثة في الأذهان اهتماما يذكر، فهذا الأسلوب ليس له سوى أن يصطدم بالجدار تماماً، أن يسقط ويتكسر كالزجاج، يصعب لمه وإعادة تشكيله.
لذا فإن الفعل الحقيقي للتغيير والبناء يجب أن يبدأ من الصفر من لحظة تعليم الحروف والكلمات والإعداد، ثم الانتظار والتروي كثيراً حتى ينبت الزرع وتمد الأشجار الصغيرة سيقانها في ثلاثين عاماً من الزمن، أي زمن جيل بأكمله؛ جيل تمت روايته بالجمال المطلق من علم وثقافة وفن وسلوك حضاري يرتقي ولا يهبط.
من هناك يتم العمل، ومن هناك يكون الدور الحقيقي لمعنى القوة الناعمة البناءة التي تثري المجتمع محبة وجمالاً وسلاماً؛ ثراء يشع نوره عبر الأصقاع فتنجذب إليه الأعين، ينشرح له القلب، وتتوق إليه العقول.