مثل كثير من المقولات الشائعة، تعرض مفهوم الكذب في الشعر لقراءات وتأويلات خاطئة متباينة المراجع والمؤثرات. وإذا قالت العرب قديما: إن أعذب الشعر أكذبه؛ فلا بد أن يسارع كثيرون من القدامى والمحدثين لنقض ذلك؛ لما يتبادر إلى الأذهان من محمول دلالي للكذب كصفة سالبة تنبذها الأخلاقيات والإيديولوجيات: وقد جرى في كتب النقد القديمة نقض تلك المقولة بدوافع دينية وأخلاقية ترى في الشعر ميدانا للحقائق المجردة والتعاليم الخلقية الرفيعة ما لا يناسب صفة الكذب المنسوبة لأعذبه وأحسنه. وتم رد تلك المقولة أيضاً بدوافع ثورية معاصرة ترى في الشعر (سلاحا) أو أداة تخدم التغيير والتحول الاجتماعي ما لا يناسب وصف الكذب المقترن بأعذب الشعر. حتى أن الشاعر الراحل عبدالوهاب البياتي كرس ذلك حين كتب في إحدى قصائده المبكرة «الشعر أعذبه الكذوب/ قالوا وما صدقوا/ لأنهمو تنابلة وعور»! ولا أحسب أن وصفَ القائلين بكذب الشعر شرطاً لعذوبته بالتنابلة وصفٌ صائب؛ لأن الخيالَ الشعري المحايث للكذب الفني المقصود في تلك المقولة دليلٌ على حيوية ونشاط؛ لا تبذلهما إلا النفوس المسكونة بالفن والمهمومة بقضاياه، والمعانية في توصيل مضامينه. الكذب المقصود في المقولة هو رديف الخيال المقموع في المفاهيم التقليدية قديمة وحديثة؛ لأنها تربط الفن بالحقائق المجردة كما يفهمها الجميع دون استثناء الشعراء من ذلك، ويمثل النقاد القدامى كبراهين على خطل الخيال الكاذب في ظنهم بكثير من القصائد التي صنع الخيال فكرتها وأوصل مقاصدها، وهو مبرر لغرض تجسيم المعاني وخدمة الدلالات التي تحملها النصوص. فيلجأ الشاعر لما يوازي ذلك صورة وخيالا. كقول الشاعر مفتخرا «ملأنا البر حتى ضاق عنا/ وماء البحر نملؤه سفينا»، ولكن القراءات المغلوطة التي صاحبت تلك النصوص عند تدوينها، نبهت إلى المبالغة فيها وعدت ذلك مثلبة ونقصا أفاد منه مناصرو النثر ومفضلوه على الشعر في المحاججة القديمة حول أحقية كل منهما بالشرف. ومن المفارقات أن مفهوم الشرف نفسه قد جرت قراءته خطأ، وفسر بيت المتنبي حول الشرف الرفيع الذي لا يسلم من الأذى إلا بإراقة الدم على جوانبه بطريقة ضيقت حدود ذلك الشرف، وربطته بحقيقة واحدة بحسب فهمها للشرف المناقض للرذيلة، فيما كان المتنبي يتحدث عن المكانة العالية المكتسبة بالجهد والكفاح، والتي هي ألصق بالمعنى اللغوي للمكان العالي المشرف على ما تحته. ولا تزال كثير من القراءات اليوم تعاني من ذلك الفهم فقامت بتكفير الشعراء بتأويل ألفاظ منتقاة من قصائدهم ومقطوعة عن سياقها؛ لاتخاذها أدلة على ما يتوهمونه كفرا، يرون أنهم مخولون بتفويض إلهي بدحضه أو إفناء قائله وتصفيته. والحق أن الشعر لا يشتغل وفق الحقائق المستقرة والشائعة، بل يذهب إلى دلالاتها ويوسعها لتجسيم المعاني وجلاء الصور التي هي حقائق الشعر دون الاحتكام إلى صحتها خارج بنيته. ولقد ظل القمر مثلاً كما هو في مخيلة الشعراء رغم صور غزاة الفضاء حول جغرافيته الوعرة وسطحه الصخري بل ظلامه وعتمته.