وقع لي لقاء منذ زهاء ثمانية وعشرين عاماً، في جامعة وهران، مع أستاذي المستشرق الفرنسي أندري ميكائيل، وكنت أتجاذب معه أطراف الحديث حول إشكالية المنهج العويصة؛ فزعم لي في لهجة يشوبها الجدّ والهزل جميعاً: إنّ المنهج هو، في الحقيقة، اللاّمنهج! غير أننا لدى الجلسات العلميّة التي كنّا نعقدها في الكوليج دي فرانس بباريس، من بعد ذلك، لم يعد يردّد مثل هذا المصطلح؛ بل كان صارماً في تحديد منهج دقيق للبحث... فهل من منهجٍ يُتَّبع في دراسةِ قضيّةٍ، أو بحثِ مسألةٍ، أو تحليلِ نصّ؟ حتماً نعم... لكنْ قد يكون من العسير التّقيّدُ بمنهج واحدٍ يمكن تطبيقه على كلّ الدراسات والتحليلات؛ فكثيراً ما يردّد النّقّاد أنّ كلّ نصّ يفرض منهجه الخاصّ... وربما تكون هذه المقولة سليمةً إلى حدّ ما، أو إلى حدّ بعيد... ذلك بأنّ من العسير فرْض إجراءٍ منهجيّ وُضِع في الأصل لنصّ سرديّ شعبيّ (الحكاية الشعبية، والأسطورة، والخرافة...) بتعميمه على تحليل كلّ النصوص السرديّة الأخرى كالرواية، والقصّة... فعلى الرغم من انتماء هذه الأنواع كلّها إلى جنس السرد؛ إلاّ أنّ كلّ نوع يتفرّد عن الآخر بمكوّنات وخصائص فنيّة تجعل من العسير تطبيق إجراء منهجيّ واحد على الجميع بميكانيكيّة. نقول ذلك ونحن نفكّر في تحليل النصوص الشعريّة، العموديّة والجديدة معا؛ فإنّ الإجراءات المنهجيّة هنا ستتسلّح، في الغالب، بأدوات تقنيّة لتحليلِهما تختلف، كثيراً أو قليلاً، عن تلك التي تُتَّخَذُ في تناوُل النّصوص السرديّة... والمنهج، في الكتابة الأدبيّة، منهجان: منهجٌ للقراءة التّحليليّة، وهو الذي أمسى يستأثر بمعظم الاهتمام، ومنهج للكتابة النقديّة ويشيع هذا في تهيئة الأطروحات الجامعيّة، والتأليف في حقول العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة بوجه عامّ. والحقّ أنّ كلّ حقلٍ من هذه العلوم يتفرّد بمنهجه الداخليّ؛ ولذلك نحن، في الحقيقة، أمام شبكة معقّدة من المناهج، لا أمام منهج واحد، كما قد يذهب التصوّر إلى ذلك... فالمنهج في الفلسفة هو “مسارٌ عقلانيّ للنفس ابتغاءَ الانتهاء إلى المعرفة أو إلى البرهنة على حقيقة” (لاروس الموسوعي). وكان الفيلسوف الفرنسي ديكارت يذهب إلى أنّ المنهج خطاب غايتُه توجيه العقل للبحث عن الحقيقة في العلوم. وغالباً ما يُتَّخذ هنا إمّا المنهج التركيبي، وإمّا التحليليّ... والمنهج، في الفلسفة، في منظور أندري لاَلاَنْد، هو الطريقة التي بواسطتها يمكن التوصّل إلى نتيجة ما، في الوقت الذي لا تكون هذه الطّريقة قد حُدّدت من قبل بكيفيّة مقصودة ومتمثَّلة. كما قد يكون المنهج، في حقل معرفيّ آخر، عبارةً عن مجموعة من القواعد التي تتيح اكتساب تقنية أو حِذْق علم من العلوم كمنهج القراءة مثلاً... إنّ المسألة المنهجيّة التي نثير من حولها الحديث هي من أكثرِ المسائل الإجرائيّة تعقيداً، وأعْوَصِها إِشكالاً؛ فبالمنهج السّليم يمكن أن نتوصّل إلى نتائجَ سليمةٍ، ومن أقرب الطّرائق؛ لكنّنا باللاّمنهج، (خصوصا بالمفهوم السلبيّ له) قد نَعْنَتُ نحن كثيراً، ونُعْنِت غيرَنا أيضاً، دون التّوصّلِ إلى نتائجَ تذكر.