وطول مقام المرء في الحيّ مخلق لديباجتيه فاغترب تتجدّد فإني رأيت الشمس زيدت محبّة إلى الناس أنْ ليست عليهم بسرمد بهذه الحكمة لهج أبو التمام قبل فساد الزمان. أيامها كان الرحيل ممكنا. وكانت الأرض واسعة والآفاق كلها مفتوحة قدّام المرء. وقبله حدّث الشنفري عن هذه الرغبة الجارفة في الترحال فقال: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متعزل هذه الرغبة التي سكنت الكائن منذ الأزل هي التي قادت خطى جلجامش ورفيقه إنكيدو فسافرا بحثا عن الخلود وسطرا أمجادهما. وهي التي كانت تقود خطى البدو لذلك أقاموا في الترحال. كان البدو من عابري السبيل الذين سبتهم المسافات فآخوا الطرق وافتتنوا بالبعيد وما لا يدرك بالإقامة. الغجر كانوا أيضا أسياد الدنيا وأسياد الترحال قبل فساد الزمان. هذا أيضا ما تشهد به سيرة المتنبي شاعر الزمان. فلقد عرف عنه أنه كان مشّاء مقيما في الترحال. لذلك زعموا أن الأرض كانت تطوى له. كان يفاخر بالترحال في شعره معتبرا الشعر والسّفر صنوين. فمن تسكنه أسئلة الشعر لا يمكن أن يقيم في مكان، بل يمعن في الترحال قلقا متوتّرا باحثا عن الجديد والفريد. حتى لكأن أعظم ما يمكن أن يجود به الشعر إنما يكون في السفر والترحال لا في “الإناخة والمقام”. كتب مثلا: ذَرَانِي وَالفَلاَةَ بِلاَ دَلِيلٍ وَوَجْهِي وَالهَجِيرَ بِلاَ لِثَامِ فَإِنِّي أَسْتَرِيحُ بِذِي وَهذَا وَأَتْعَبُ بِالإِنَاخَةِ والمُقَامِ كان المتنبّي مأخوذا بالرحيل، بالسفر، بالجديد الذي يحفّز الحواس، بالغريب، بالمفاجئ. ففي السّفر يمكن أن يستبدل بالأليف والمكرور والمتعارف، الغريب والمفاجئ والجديد. نقرأ أيضاً: أَلِفْتُ تَرَحُّلِي وجَعَلْتُ أرْضِي قُتُودِي والغُرَيْرِيَّ الجلاَلاَ فَمَا حَاوَلْتُ في أرْضٍ مُقَامًا وَلاَ أَزْمَعْتُ عنْ أَرْضٍ زَوَالاَ علَى قَلَقٍ كَأَنَّ الرِّيحَ تَحْتِي أُوَجِّهُهَا جَنُوبًا أو شَمَالاَ وتذكر الكتب التي عنيت بمسيرة المتنبّي أن ما ورد في شعره من تمجيد للترحال وللإقامة في السفر إنما جاء يعبّر عن طريقته في المقام تحت الشمس. فالسّفر بالنسبة إليه ليس مجرد تنقّل في المكان بل هو فعل وجود. الترحال هو الذي ملأ حياة ابن بطوطة أيضا بالمعنى وهو الذي مدّه بأمجاده وأفضاله فخلّدته الدنيا. كان ابن بطوطة أمازيغيا، ومعنى كلمة “أمازيغن” في اللغة البربرية “الرجال الأحرار”. ولأنه من الرجال الأحرار افتتن بالمجهول واختار السفر نهجا في الحياة قبل فساد الزمان وتفسّخ الدنيا. فلو وجد ابن بطوطة في زماننا الفاسد هذا لأُجبر على الإقامة في طنجة حتى الموت. سيطلب تأشيرة إذا أراد أن يدخل إسبانيا وقد لا يحظى بها أبدا. أما إذا يمّم وجهه شطر المشرق العربي فستطالبه الدول العربية بالتأشيرات أنواعا وأصنافا وألوانا. الراجح أنه كان سيقضي العمر أمام السفارات منتظرا، والراجح أنه كان سيموت من شدة الغمّ والهمّ أو سيلقى حتفه كمداً.