هتاف روحي للرحيل، يمرر عزف الشوق، بل يسكن الذات حين تتململ من المكان، مهما كان رائعاً، لا بد من الشعور برغبة الرحيل عبر الأفق الجميل. هي حاجة إلى امتداد المسافة، وإيلاج الذاكرة في التنوير الذاتي والثقافي، وإدراك المعرفة حين لا تكتفي بما قرأت أو نظرت عبر شاشات متلفزة تزخر بالألوان، حين لا تكتفي بما سمعت، فلا بد أن ترى عين المكان. ربما لا يشعر المرء بما حوله من جمالية المكان، فيما هي تزهر في عين القادم حين ينكشف على المدينة، ويدهش برؤية الأشياء ويسجل إعجابه بالمتاحف والشوارع الشاسعة الحارات، بينما لا يدهشك ما تراه باعتياد.
ذات مرة، التقيت بامرأة ألمانية، تجاوزت السبعين من العمر، تصادف وجودنا في مقهى بوسط ميونيخ، وكثير ممن هم بعمرها في أوروبا، يستهويهم الرحيل والسفر، لاكتشاف المدى البعيد، ومن ضمن رحلاتها المتعددة، زارت مدينة دبي وأعجبت بالمدينة وتفاصيلها اليومية، إلا أنها لم تكتف بتلك الرحلة وتوسعت في قراءتها الثقافية، وحطت عينها على جبل حفيت ونوع صخوره، وحددت زمناً آخر لزيارة مدينة العين، وحين حطت الرحال، سعدت بمرافقتها نحو المنطقة الجميلة من «مبزرة».
رحلة مملوءة بالحديث عن تلك الصخور وميزتها حسبما قرأت. صعدنا إلى قمة الجبل واستقر بنا المسار، وبدأت تتفحص تلك الصخور، ثم تعود إلى البيانات التي حددتها مسبقاً، ولم تكتف بذلك بل حملت بعضها في حقيبة اليد المتسعة.
ترحال متقن ودقيق نحو المكان، وقراءة مسبقة ضالعة في البحث، ولها خاصية ثقافية تمد بها جسور الذات نحو المكان الذي تستشفه وتحاوره بعقلية المثقف، وما كل الأمكنة لها خاصية الحوار، فبعض المدن تنتقل عبر فصول الزمن، وتتوهج في البناء الحضاري، فلا تجاري القادم إلا بقليل من التجاذب، ومحطاتها لا تمتهن السياق السياحي، بل الحوار ذاته يتبدد سريعاً.
وهنا يمتد ترحال المثقف، لأنه يرحل عبر بيانات زمنية وفصول من الذاكرة، ومن خلال روايات تعمقت وتأصل فيها المكان وتدثرت بالرؤى المختلفة، وهذا نهج المثقف أن لا يكتفي بما في السطور، بل يبدأ الترحال نحو فصول الرواية الحقيقية لاكتشاف ما يمكن رؤيته، هذه هي فلسفة الترحال بمنهجية البحث عن الذات، وعن المعنى الحقيقي للمكان وأهميته المتقدة في الذاكرة.
ما رفدتنا به الزميلة حصة سيف، حين ذهبت لتسليط الضوء على اكتشاف مغارة الخفافيش بوسط الجبل نفسه هو اختلاج آخر من الجهد الثقافي الذي ينتبه للحياة والبيئة، التي تحتاج إلى المعرفة بها والتعرف على مساحاتها السياحية، برصانة ودقة.