لم يُوفَّقْ كاتبٌ عربيّ إلى وصْف منافع الكتاب وما ينشأ عن قراءته من متعة وفائدة كأبي عثمان الجاحظ في مقدّمة كتابه “الحيوان”. وكأنّ الجاحظ استبق الزمان فقطع الطريق على كلّ كاتب يريد أن يصف هذه الأداة الثقافيّة العظيمة. ويدلّ ذلك على أنّ العرب كانوا يَعُدّون قراءة الكتاب، واقتناءَه، وتزيينَ مكتبة البيت به من أرقَى المظاهر الحضاريّة. وقد قيل عن المتنبّي إنّه جلس في ناحية من مكتبة تجاريّة كان صاحبُها يبيع كُتبَها للناس، فلاحظ الكُتبيّ أن الفتى أطالَ النظر في الكتاب الذي بين يديه فخاطبَه إمّا أن يشتريَ ذلك الكتاب، وإمّا أنْ يمضيَ لشأنه، فأجابه المتنبّي كالمتحدّي: كيف أشتريه وقد حفِظته؟! فراهنه الكُتبيُّ إن كان قد حفظه فعْلاً لَيَهَبَنَّه إيّاه، فتبيّن أنّه قد حفِظه فعْلاً! ولعلّ إيلاع المتنبي بالكتاب هو الذي جعله يقول فيه: أعزُّ مكانٍ في الدُّنا سرْجُ سابحٍ وخيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ ولعلّ أوّل مكتبة عموميّة ذات نظام احترافيّ راقٍ أن تكون مكتبة بيت الحكمة التي أسسها الخليفةُ المأموم في بغداد. ولم يزل شأوُ الكتاب يعلو في تقاليد الحضارة العربيّة الإسلاميّة حتّى بلغ الذروةَ عند أهل الأندلس. وقد نشأ عن ازدهار ثقافة الكتاب صناعات هامشيّة مثل الوِراقة، والنِّسَاخة، والتجليد، والتذهيب، وصناعة الحبر بألوانه المختلفة. وبمقدار ما يعلو شأن الكتاب في مجتمع من المجتمعات، يعلو شأن أهل ذلك المجتمع فيُصبحون ظنينين بالمعرفة العليا، وحبّها، والتشجيع على حِذْقها. وظهرت المطبعةُ فأحدثت ثورة عظيمةً في تسويق الكتاب وترويجه، فبعد أن كان الناس يستنسخون بخطّ اليدِ كتباً ضخمة، فكان ذلك السلوك البدائيّ مكلِّفاً لسعر الكتاب الذي كان وقْفاً على أغنياء الناس، أصبح يوزَّع بأسعار مناسبة تتيح لكلّ متوسطي الحال أن يشتروهُ فيمتلكوه. ولم يزل الناس على هذا الديدن طَوالَ زُهاءِ خمسةِ قرون إلى أن ظهرَ شكل جديد للكتاب، وهو الكتاب الإلكترونيّ، فأصبح الواحدُ منّا يقرأ في حاسوبه مئات الكتب العظيمة. ومن منافع الكتاب الإلكترونيّ أنّه لا يكاد يكلّفُ قارئه شيئاً، فقد يُهديه صديق قُرْصاً تزيدُ محتوياتُه على أكثر من ألفِ كتابٍ. ولو قال أحدٌ لأجدادنا لَما صدّقَ أحدٌ منهم هذا الشكل الجديد للكتاب. كما أنّ من منافعه إمكان الاستغناء عن تخصيص غرفة كبيرة أو صغيرة في البيت لتكون مكتبةً، فالكتاب الإلكتروني يجعلك تستغني عن أحيازٍ واسعة من بيتك فتتخذها لشؤون أخرى، إذ يمكن امتلاك عشرات الآلاف من الكتب في بضعة أقراص صغيرة لا تزن رِطلاً واحداً!... ومن مساوئ الكتاب الإلكتروني أنّه يُفقدُك المظهرَ الثقافيّ من بيتك فيصبح كأيّ بيتٍ. ومن مساوئه أيضاً إقبال بعض الهيئات على استنساخ أشهر الكتب وأكثرها تداولاً بين الناس، مكلِّفين بعض الكَتبة الذين لا يعرفون العربيّة فتغتدي مشحونةً بالأخطاء، ممّا يقلّل من فائدتها الثقافيّة. وإنّا ندعو، بهذه المناسبة، إلى كتابة اسم المحققين الذين يصححون الكتاب الإلكتروني ليصبحَ معترَفاً به أكاديميّاً.