أحسب أن الشاعر المصري محمد عفيفي مطر (1935 ـ 2010) ولد في خليط من الماء والطين اسمه الطمي، في قرية في صعيد مصر اسمها “رملة الأنجب”، ذات يوم من أيام العام 1935، وأمس، عشية الاثنين من 28 حزيران 2010، عاد إلى الطمي الذي صُنع منه جسده وشعره. عظمة محمد عفيفي مطر أنه شاعر الماء والطمي، الذي سمّى على اسمه ديوانه الثالث “عندما يتحدث الطمي” بعد ديوانيه الأولين: “من دفتر الصمت” و”الجوع والقمر”. وقد عرفت محمد عفيفي مطر معرفة شخصية حميمية. وكانت بيننا مودة، وقد قرّب المودّة بيننا أسباب، من بينها صداقتنا المشتركة للقاص المصري المبدع سعيد الكفراوي، الذي كان ينتمي إلى القرية التي ولد فيهها عفيفي مطر، “رملة الأنجب”، وكان مثله فلاّحاً رائعاً قارئاً لأبجدية الماء والطين، ومن بينها أيضاً التواشج الشعري الذي يجمع القصيدة إلى القصيدة، واللغة إلى أختها، والمعنى إلى نسيبه. محمد عفيفي مطر صانع أساطير من دم وطمث القرية التي عاش فيها، وصائغ لغة شعرية من المعيار المنتخب.. صاحب غريزة لغوية قوية وكاسرة، وبها وبانتمائه لرعوية الريف المصري صنع تفرّده بين مجايليه من صلاح عبدالصبور إلى أحمد عبدالمعطي حجازي إلى أمل دنقل. ومن تمرّغ جسده في ماء النزع وطينها، ولدت قصيدته الفريدة والحكيمة والمحكمة، وأخذ لون وجهه وجسده لون الطين.. وقد أصابت جرثومة النزع كبده فقتلته، كما قتلته زنازين الاستبداد.. ولكن أحيت زهرة الشعر الجميلة الغامضة، التي غالباً ما تنبت في المجاري الصعبة، وفي زوايا الغرف المظلمة، وتمنح لصاحبها الحكمة التي قطفها عفيفي مطر مرتين: مرة حين عاشها كفلاّح حقيقي يحرث أرضه بيديه ويبذر البذّار بأصابعه، ويحصد السنابل.. ومرّة حين تأمل في مياه الترعة، وفي حبات القمح والبرسيم فوجد ثمة دماً في الماء، وعلى وجنات القمح، فقطف الحكمة الشعرية الرائعة، حيث قال: “الحق قد يقال مرتين فمرّة يقوله العرّاف ومرّة يقوله السيّاف” لا أنسى سهرة ضمّتنا معاً في تسعينيات القرن الفائت، في عمّان، في منزل النحّاتة والرسّامة منى السعودي. كان هناك جبرا ابراهيم جبرا وعفيفي مطر ومحمد القيسي وقرأنا أشعارنا حتى الفجر، قرأ عفيفي مطر في ديوانه “كتاب الأرض والدم”.. قرأ القيسي قصائد غجرية، قرأ جبرا قصائد إلى توفيق صائغ. قرأت وجهاً لليلى وحين طلع الصباح، سكتت شهرزاد عن الكلام المباح. محمد عفيفي مطر لم يمت.. ولكنه ذهب لينام في انتظار ليلٍ آخر.