كن واحداً تكبر، كن كثيراً تتبعثر. كن مرناً يطل أمدك، كن صلباً تتكسر. هكذا نحن نطالب بالكثرة في احتياجاتنا فنتعب، ونغضب، وننجب الفراغات في دروبنا ونحن نمضي في الحياة، فنشعر بالانكسار كلما كشر الوجود في وجوهنا، نشعر بالنكوص كلما خف وزن ما نملكه، نشعر بالانقباض كلما شحت اليدان، وهكذا تتراكم كمية هائلة من الغبار على أرواحنا ونصبح كومة تالفة، تافهة، نصبح لا شيء عندما نجد العالم من حولنا مقطب الحواجب، ولا يلتفت نحونا غير الأصغر منا وبهذا يصير وجودنا في العالم عملة زائفة، أو أحفورة عدمية لا قيمة لها غير أنها تحتجز مكاناً فوق الأرض. الأزواج في صراع أزلي فيما بينهم، لأنهم أقل من مطالبهم، والأبناء في إحجام، وإقدام فيما بينهم، وبين آبائهم، لأن المدهشات أضخم من مدى ما تستوعبه الأفئدة، ولأن ذات اليد أصغر بكثير مما هو معروض على مستوى الخارج، الأمر الذي يجعل الصراع الداخلي يتفاقم، ويتورم، ويتضخم، ويحتدم، وتصبح النفس البشرية ملتهبة كألسنة النار، والعقول تكتسي رداء سميكاً بحيث لا تميز ما بين الألوان، ولا الأشكال، نرى ذلك كله يحدث عندما تلتقي بشخص في سن الزهور، ولا ابتسامة على محياه، ولا صفاء في عينيه، لأن هذه السمات الخلقية اختفت تحت جبال من نفايات المطالب التي ليست بوسع شخص ما تحقيقها. اليوم الأشياء متسارعة في تغيرها هي هكذا مثل دورة الأرض حول الشمس، هي هكذا مثل حركة عقارب الساعة في الدقيقة الواحدة، فمن أين لشخص في ريعان الشباب أن يتواكب مع هذا الدوران حول المركز؟ الآن من الصعب أن تجد شخصاً ما يقول لك أنا سعيد، على الرغم من توفر كل مستلزمات الحياة الأساسية له، لماذا؟ لأننا لا نكتفي بالجوهري ولأننا نتطلع إلى ما بعد الجوهري، وما بعد الجوهري هو ليس في متناول اليد إنه في المناطق الأبعد ونحن لا نكف عن السباحة في البحر المسجور، نحن نريد أن نعبر النهر من دون قوارب نجاة نحن نكابر، ونفعل مثلما فعل فرعون، نريد أن نقفز إلى السماء بحبال مهترئة نريد أن نطير بأجنحة مزيفة مثلما فعل عباس بن فرناس، ودائما ما تقع، وتتكسر الأجنحة، ونتحطم نحن لأننا لم نقتنع بالممكن، وطرنا فجأة إلى المستحيل. يا له من متخيل فج، نسلك منهج بطلينوس الذي قال إن الأرض هي مركز الشمس. مجازفة كلفت الإنسانية عقدة ذنب لم تمحَ آثارها حتى كتابة هذه السطور.