ماريا تشاليس 35 سنة.. البريطانية أحبت باول البالغ من العمر 38 سنة، ولكن للموت كلمته، حيث أصيب الزوج “باول” بمرض خبيث لم يمهله كثيراً فقضى وترك ماريا الزوجة تفكر كيف تنشئ طريقة نموذجية لتحفظ الود وتصون الحب وتبقي الذاكرة مشتعلة بصورة الرجل الذي أحبته.. فاهتدت الزوجة الشابة إلى طريقة مبتكرة، حيث أخذت صورة للزوج بملابس العمل، وألصقتها على ورق الكرتون، ووزعتها في حديقة المنزل، بينما وزعت صوراً أخرى بالملابس الرسمية داخل غرف المنزل إيماناً منها أن الموت غيَّب الحبيب، لكن صورته يجب أن تنطبع في الوجدان كما هي معلقة وملصقة بالجدران.. نعرف جيداً التفكك الذي أصاب المجتمعات الإنسانية، خاصة الغربية بفعل التطور الاقتصادي وتسرب كثير من القيم الحضارية بعيداً عن الحضارة، ولكن البريطانية ماريا يبدو أنها أرادت أن تضرب مثلاً أعلى في العلاقات الإنسانية ولتؤكد أن الحضارة التي فُككت وسرقت الكثير من المشاعر لم تستطع بعد أن تهرب بكل شيء فلم يزل بعض الأشخاص يحافظون على ما تبقى من الزمن الجميل، وما زال للحب موقع في نفوس البعض الذين لم تتلوث ثقافتهم العاطفية، ولم يطفئها هياج الموج العالي لأنهم يؤمنون حقاً بأن العلاقات الإنسانية أساس الحضارة وأن أقل ما يستطيع فعله الإنسان تجاه من ارتبط به بعلاقة إنسانية هو حفظ الود، ومقاومة النسيان.. حقيقة نشهد في هذه الأيام وفي مجتمعاتنا أن خيام العزاء أصبحت مجالس للضحك، والتسلية وإثارة النكات، وكأن العزيز الذي رحل مجرد حشرة ونفقت فلا يوجد اليوم ذاك الاحترام لروح من رحل، ولا رهبة للموت كونه الكائن الوحيد الذي لا يقاوم ولا يساوم ولا يمكن للإنسان أن يدعي الشجاعة أمام هذه الذراع الطويلة.. ثقافة تغيرت وقيم تدهورت وعادات وتقاليد زالت واندثرت، وصار الناس أشبه بهياكل مجوفة خالية من المعنى والمضمون، ولا مفردة تقال في هذا المقام غير أن التفكك الذي أصاب العلاقات الاجتماعية سحق المعاني الجميلة واستولت على الأفئدة، قوة طاغية هي حب الذات فأبادت وسادت وتورمت النفوس، حتى صارت أشبه بالبالونات الطائرة في الفضاء الواسع.. عودة إلى قراءة جديدة لما صار ويصير وما يستجد من علاقات يثير في النفس فزعاً رهيباً ويجرد شجرة القلب من أوراقها الخضراء.. ما فعلته ماريا البريطانية من أجل زوجها لم يكن إعجازاً ولا إنجازاً ولا هو يعيد الذي غادر الدنيا، لكنه فعل نموذج ومثال للعاطفة الخضراء التي لم تيبسها حرارة المصانع الاقتصادية، ولم تجفف نداوتها نفحات الهواء الثقافية الجديدة.. المضي قدماً، من دون التوقف، وتأمل المسافة التي قطعت، يجعل الإنسان يذهب إلى المجهول أو يبحث عن سراب ومن وراء السراب، خراب وخراب النفوس أس المعضلات، وأعظمها مضاضة، ولا غضاضة أن نتوقف ونحاسب أنفسنا لنحفظها من الذوبان في جلجلة العاصفة.


علي أبو الريش | marafea@emi.ae