تختلي الذات بذاتها احيانا في غفلة ممن يحيط بها لتسترجع مسارها في عتمة الوجود حينا وحينا في اشراقته. هكذا جلست يوما لأجد الجواب على سؤال تطرحه الذات في عزلتها على ذاتها. السؤال هو من علمني القراءة وعلمني الكتابة؟ اتذكر جيدا ان الفضل في شغفي بالقراءة كان يعود الى ثلاث شخصيات، وإذاعة: أخي وخالتي ومديرة المدرسة الابتدائية وإذاعة الشرق الادنى! أخي إبراهيم سبقني إلى المدرسة لأنه يكبرني في العمر. وكان حين يعود من المدرسة يعلمني قراءة ما تعلمه في المدرسة وكان يستعير كتبا من مكتبة المدرسة بالمنامة فأقرأها أنا. وقد عزز دخولي (المطوّع) شأن كل الأطفال في ذلك الزمن اتقاني القراءة حتى أنني ختمت القرآن في زمن لا يتجاوز الثلاثة أشهر. وما زلت أتذكر الطقس الاحتفالي الشعبي للطفل الذي يختم القرآن.. وما زالت ذكرى المطوعة عائشة ( رحمها الله) تنبض في ذاكرتي. وفي المدرسة كان الفضل يعود إلى مديرة المدرسة الآنسة “زينب عيدو” اللبنانية. ولأنها كانت تؤمن بأن المطالعة الحرة تسند التلميذ في دراسته وتدفع به للتفوق، فقد أنشأت مكتبة للمدرسة.. وعودتنا أن نجمع في صندوق المكتبة “عشر آنات” كل يوم خميس.. لتشتري الكتب للمكتبة حين عودتها إلى لبنان. وفي تلك الفترة من المرحلة الابتدائية، قرأت اغلب أدب ذلك الزمن الخصب: جبران والمنفلوطي وطه حسين ومارون عبود والسباعي وتراجم منير البعلبكي تشارلز ديكنز، فيكتور هيجو، اميلي برونتي واغلب كلاسيكيات الأدب الروسي والإنكليزي والفرنسي عبر تراجمها إلى العربية. وكانت طريقتي في القراءة تتسم باللصوصية! كنت أخبئ الكتاب عن أعين العائلة تحت الفراش، وإذا رآه احدهم أدعي انه كتاب مدرسي مستغلة أميتهم. وحين يغط الجميع في النوم أختبىء مع الكتاب تحت الغطاء لأقرأ على ضوء فانوس ضعيف حتى الصباح ثم أغلق الكتاب واضعه في الحقيبة واغتسل واذهب إلى المدرسة، و أواصل التلصص في قراءة الكتاب من فتحة الدرج الذي كان كتاب المدرسة مفتوحا فوق سطحه.. وأنا جالسة متكتفة كما كان يفرض على التلاميذ في ذلك الزمن. وكانت سمعتي في المدرسة تتسم بالتأدب والخلق الهادئ والتفوق وعدم المشاكسة والمشاغبة التي تتصف بها اغلب الطالبات، طوال سنوات دراستي دون ان يعرف احد السبب الحقيقي.لأن القراءة كانت هي عالمي الحقيقي، المدهش، الرحب، والعميق، ولم أكن أجد متسعا بسببها للعب والشغب كما كانت الفتيات في عمري. حين لاحظت المديرة أنني أكثر التلميذات قراءة وإقبالا على الاستعارة، صارت قبل سفرها تستدعيني لتسألني أي الكتب أريد.. وكنت اعرف أكثر الإصدارات الجديدة من إذاعة الشرق الأدنى التي كنت أنصت إليها كل يوم بعد منتصف الليل حين ينام الجميع.. تلك الإذاعة كانت من روافدي الثقافية المهمة.. كانت برامجها المسائية تتنوع بين الأدب والفن والموسيقى والتراث العربي والعالمي، ومنها تعلمت حب الموسيقى الكلاسيكية. كما عرفت الكثير من كتب التراث العربي. هذا بعض أناي. لكن للذاكرة فيضها الذي ربما اتسع له مقال آخر! حمدة خميس hamdahkhamis@yahoo.com