من يتجاوز وجودك يشعر بالخوف من خيالك، يتعبه صمتك، هذه اللغة الجميلة ذات المفردات الواسعة، المتحررة من شوائب الواقع المرير، المتجردة من الضجيج وهذيان الأرق، المستنسخ في الحياة، فالصمت لعبة متقنة بالتعامل مع الوهم بربع عقل دون أن يفقد العقل الجزء الساخر من التفكير، ما يعني أنك تبقى في جوهر الحلم الجميل حين تفكر بصمت، هذا المس المطهر من لغة الكلام، المصطفي من الوجود لذته، المتخيّل بتجاوز العثرات والعقبات ونزعات الماضي والحاضر، فالصمت يحدث من جراء الشقاء والألم، في تحد خفي بأن الحياة منطلق يتجدد ويثابر على التجديد، أما العصامية فهي ابتهاج لا يتريث، ومنطق جميل لا ينحسر، يترك العبث خلف هذا الحراك العقيم، ليرسم لوحة من الألوان الزاهية والصور النابعة من القيم المتأصلة بالنفس، فمن يفهمك يسمع صمتك مثلما قال جبران خليل جبران.
بالصمت تقرأ الحياة والوجوه والذوات المناكفة جيداً، تراها غابة من التشابك، لا أمل من تحررها من فوضى الأرق المزمن، تود ذواتهم لو تطمس بعضها في خواء التراب، ولا يقوى بعضها على بعض فتشقى، لذا الصمت فن من فنون التخاطب، وحكمة ومخرج لكي تعتاد الذات على التروي، وقراءة المشهد من بعيد، ليسمعنا الآخرون من خلال الصمت مثلما قال جيفارا.
استرسال زمني جميل للصمت ترى فيه تعدد صور الحياة، وتلوّن الأشياء من حولك، ما يمنحك متعة التنزّه في عقول الآخرين، مثلما قال جورج برنارد شو، وكذلك كثير من العباقرة، فحين تتلاشى القيم وتتشابك الفوضى، وتتجسد نظريات من شأنها أن تمسخ الواقع أو تجعله مريراً ساذجاً أحياناً، ولربما مدمر بلغة أخرى، فالصمت هو الخلاص من الحوارات العقيمة وهو المحاولة الأخيرة لأخبارهم بكل شيء لم يفهموه حين كنا نتكلم كما قال نجيب محفوظ.
الصمت لا ينفي الحوار بين تلاقي العقول، بل لذّة الحياة تبدأ بالحوار وتنهض منه لتتجاوز سراب الجهل وليصير الكلام أقل بوحاً وليصبح الصمت مجرد تحصيل للمعرفة وتخصيب للرؤى، فكل شيء جميل يبدأ بالصمت هذا النسيج من لغة التأمل والإبداع، وفيه إيحاء للطموح والتجلي نحو النجاح.
لذا الصمت وحده يختلج الرؤى ويجسّد المعنى الجميل للحياة، ويسكن الذوات المتحررة من شوائب الجهل، ليقيم ثقافة الوعي المتحضر النابع من صفاء النفس وسلام الروح الصادقة، يحتاج إلى قوة حالة وموهبة وفطنة جبارة ليرتقي الصمت بالإنسان إلى عالم يتصف بالرقي والتحضر.